فأدخلوا الاطفال عالما ليس عالمهم واستبدلوا ثقافة المحبة والتسامح بهمجية السلاح والقتل والتدمير.
فكان السؤال الذي لم يجرؤ من يحتضن الارهاب ويدعي الثورة على طرحه, ما تأثير الازمة على اطفالنا حيث يمكن أن تتحول البندقية من دمية بلاستيكية الى حقيقة برفقة الارهابيين الذين وضعوا هؤلاء الاطفال امام مستقبل أعمى يقود شبابهم الى فم الموت و أكف الضياع.
تجنيد رخيص
لعل انتشار السلاح بين المدنيين منذ بداية الازمة لعب الدور الرئيس في غرس ثقافة السلاح في عقول الاطفال لتتطور هذه الثقافة الى ممارسة فعلية للعمل المسلح فأدخلوا الطفل في حرب ليست حربه , وهذا باعتراف تنسيقيات التنظيمات الارهابية نفسها التي تتباهى بنشر صور ومقاطع فيديو لأطفال صغار يلبسونهم لباس الارهاب ويتكنون بأسماء ارهابيين ومجرمين ويحملون اسلحة اطول واثقل منهم ويشركونهم بعمليات سلب ونهب و قتل وذبح وتعذيب, ما يثبت دون ادنى شك اقدام تلك العصابات الارهابية على الاستخدام الرخيص والتجنيد اللاإنساني للطفولة في عملياتهم الدنيئة.
عمليات تجنيد الاطفال واستغلالهم في صفوف المجموعات الارهابية موجودة ومثبتة على ارض الواقع عبر الكثير من الشهادات الحية لسكان المناطق التي شهدت ارهاب العصابات وعانت منه حيث تقول السيدة رغدا المدرسة في احدى مدارس ريف حمص : كنت كما غيري من سكان المنطقة اشاهد الاطفال يحملون الاسلحة المتنوعة ويتجولون بها برفقة المسلحين الاكبر سنا ومنهم من كان يقف على الحواجز التي كان يضعها المسلحون لاعتراض الناس الامنين, كما شاركوا في اعمال السلب والخطف التي كانت تحدث في المنطقة.
وتضيف :غالبا ما يلجأ الارهاب ومجموعاته المسلحة الى تجنيد فئات من الاطفال تكون محدودة التعليم لسهولة استغلالهم بحيث يوكل اليهم مهام بسيطة في بداية الامر ليورطوهم تدريجيا فيما بعد بأعمال سرقة وقتل وخطف وغيرها, ليصل بهم الامر ليزجوا بهم بمواجهات قتالية ضد الجيش والقوات المسلحة متخذين منهم دروعا بشرية في خطوط المواجهة.
اما الاطفال المقربون لمتزعمي المجموعات الارهابية وافرادها فيتم توزيعهم على مجموعات يطلق عليها اسم الكشافة مهمتها نقل تحركات الجيش ونقاط توزعه من ناحية وتأمين مرور ونقل المسلحين من ناحية اخرى حيث يقود هؤلاء الاطفال دراجات نارية ويسيرون على الطريق المقرر فان رأوا اي تحرك للجيش اعلموا المسلحين بذلك .
مهام اخرى
ما قالته السيدة رغدا اكده الاستاذ حمزة مدير احدى مدارس ريف دمشق حيث قال: اضافة لما يقوم به الاطفال من اعمال سرقة وسلب وحمل السلاح يتم تجنيدهم لأكثر من ذلك, وان كان من بين اولئك الاطفال تلاميذ في المدراس يطلب منهم التأثير في زملائهم نفسيا ومعنويا, اما لاستمالتهم واما للتسويق للاكاذيب التي تروجها قنوات سفك الدم السوري , ومن الحوادث التي ضبطناها اقدام احدى الطالبات على توزيع «اساور من الخرز» تحمل شكل ولون علم الانتداب الفرنسي. وهناك شهادات كثيرة لاشخاص عايشوا وعانوا من الارهاب تدل بشكل قاطع على تجنيد الاطفال في اعمال التنظيمات المسلحة .
التجييش والفبركة
الازمة لم ترخ بظلالها على من تم تجنيدهم من الاطفال فحسب بل تعدته الى ما هو ابعد من ذلك حسب تعبير الاختصاصية نيرمين غنام التي قالت: ان مقاطع الفيديو التي تتضمن اعمالا ارهابية وان سهولة الوصول اليها من خلال النت او مشاهدتها على الفضائيات التي تستخدم الاطفال للتجييش الاعلامي اضافة لانتشار السلاح والافعال الاجرامية في مختلف المناطق لن تغيب عن أعين بقية الاطفال فالمجازر المرتكبة وغيرها من مشاهد القتل ما هي الا مواضيع يختزنها الطفل في العقل الباطن وتؤدي الى مشاكل نفسية لا تنتهي بنهاية الطفولة بل تؤثر على المنظومة العقلية والنفسية لتشكل اسلوب الحياة لديهم, ما يجعل الطفل من اخطر المتأثرين بالأزمة ما ينبئ بخطورة الثقافة التي يمكن ان يمتصها والتي ستحدد طبيعة مستقبله الشخصي والاجتماعي والمهني.
وان استخدام الاطفال كان امرا واقعا منذ بداية الازمة وامسى فيما بعد استخداما مدروسا ومنظما لما للطفولة من تأثير على عقول العامة ولأهميتهم بكسب الرأي العام والتعاطف المجتمعي واشارت الى تحول المدارس التي تعلم فيها الطفل ونهل العلم والمعارف والمعلومات والقيم التربوية والاخلاقية التي تعلي من شأن الانسان وتمجد الأوطان وتحيي المحبة والإخاء والعطاء والتسامح والفضيلة والصدق ونبذ العنف والجريمة والفرقة الى مقرات للعصابات المسلحة ومراكز للقتل والتعذيب!.
استهداف القيم
لقاء محمد الاختصاصي في علم النفس قال ان كانت الازمة بمأساتها الاجتماعية قد حولت الطفل الى سلعة فان الخاسر الاكبر سيكون المجتمع وبنيته باتت تغوص في مستنقع الفلتان الاخلاقي والفكر الانتقامي وثقافة العنف والحقد والارهاب والقتل والخطف وما تشاء من انواع الجريمة وهو ما سيتسبب بجريمة فكرية يصبح بفضلها الغاء الاخر منهجا والعنف المكون الاساس في شخصية الطفل حيث سيتحول بانتمائه الى الدوائر الضيقة الرافضة للعيش المشترك بين ابناء الوطن الواحد. وهنا الخطر ففي مبادئ العلم وفي ادبيات الامم, وعلى مر التاريخ كان الانسان فردا ومجتمعا وحكومة يعتمد لبناء المستقبل و صناعة الغد على الشباب , لذلك كان الشأن التربوي التعليمي لدينا هاجساً وهدفاً وغاية واداة لنصل بصناع المستقبل من الصغار الى افضل المستويات, لكن وللأسف فانه في الازمة كان هذا الجانب التربوي الاخلاقي الانساني مستهدفا منذ بداية الاحداث وحتى اللحظة, اذ ان هناك دولا وقوى ومنظمات ومؤسسات اعلام عملت وما تزال على افراغ اطفالنا وشبابنا من جميع القيم الثقافية والاخلاقية والوطنية والحضارية التي كانوا قد ترعرعوا عليها .
الطفولة في خطر
وعبر استغلال براءة الاطفال واستثمار مكامن الضعف في شخصيتهم من عدم نضج او وعي وغيرها من نوازع وغرائز ودوافع يتم استبدال القيم والمفاهيم البناءة بأخرى هدامة فتصبح الجريمة بطولة, والسرقة مغامرة, والوطن طائفة, والدين تكفيرا وقتلا, والفوضى ثورة, والانفلات من جميع الضوابط حرية, وجيشنا الوطني عصابة, والدولة شخصا او جماعة, ورموز الوطن شتيمة والصديق عدوا متآمرا والعدو صديقا مخلصا.
هكذا حاولوا تغيير البنيان المعرفي في اذهان ابنائنا وما زالوا يحاولون لانهم يعرفون كم ستكون خسائرنا كبيرة عندما نخسر هؤلاء الاطفال او عندما يشوهون ما في داخلهم من قيم. ولأنها خسائر مستمرة حتى بعد انتهاء الازمة وانتصار الدولة والشعب والجيش والقانون وحينها سيكون علينا جميعا مهمة اعادة بناء الانسان وهي مهمة ليست سهلة او بسيطة بل شائكة معقدة تحتاج الى طاقات وامكانيات كبيرة يتعاون في تقديمها الجميع لان بناء الانسان اشرف انواع البناء واصلاحه اهم اشكال الاصلاح لأن الانسان هو غاية ومنطلق الحياة.
سلوكيات شائنة
ويشير الدكتور اسامة شمه الى الآثار التي تسفر عنها ظاهرة استثمار الاطفال والمراهقين من قبل المنظمات الارهابية فيقول: يكتسب الطفل تعلمه الانساني من خلال ما يلتقطه من محيطه الخارجي لأنه يتمتع بشدة الملاحظة والتقليد فرحلة الطفولة تتميز بمرحلة حساسة للغاية حيث تتشكل عند الطفل انماط الشخصية التي سيكون عليها بالمستقبل من خلال تقليده لأعمال الكبار وسلوكيات الراشدين في بيئته, وهذا ينطبق على السلوك العدواني فالأطفال بقصد او بدونه سيتخذون نماذج من سلوكيات « العنف والقتل وحمل السلاح» من خلال ما يرونه او ما يشاهدونه ما يقوي الرغبات المنحرفة والميول المريضة ويولد الاستعداد لارتكاب اعمال العنف بأشكاله المختلفة والتعزيز الايجابي المستمر لتلك السلبيات سيحولها لعادة ملازمة لشخصية الطفل الذي سيخلق نفسية مهمشة مضطربة نفسيا وانفعاليا,
مخاوف ومخاطر
وما يزيد الامر خطورة ان الطفل يبقى صامتا او يرفض الحديث لعدم قدرته على الشرح او التفسير لكن هذا لا يعني عدم قدرته على تذكر الحدث الذي ستتجلى معاناته على شكل كوابيس لا تلبث ان يستعيدها عن طريق العقل من خلال اللعب الذي يرتبط بالحدث, لذلك تجد العاب الاطفال مسدسات وبنادق وهنا يأتي دور الاهل في ملاحظة اي تغيير على سلوك اطفالهم واعطاء هذا التغيير ما يستحقه من الاهمية لتلافيه ويمكن ذلك من خلال الانخراط في النشاطات المجتمعية والمدرسية والنوادي الرياضية بقصد تفريغ الضغط النفسي اضافة الى نشر ثقافة التسامح وقبول الاخر والتفكير بأهمية الوحدة المجتمعية وضرورة اعادة علاقات الافراد ببعضهم, بغض النظر عن اي انتماءات او تيارات والتفكير بمصلحة المجتمع والوطن الذي تكالب اعداؤه لاغتيال براءة الاطفال ومستقبلهم واحلامهم .
فالمطلوب من الأزمة ومفتعليها القضاء على الانسان اما بقتله او بتفريغه ليصبح اجوف بلا هدف او عقيدة وما تجنيد الاطفال الا لقتلهم اما بتجريدهم من كل القيم الإنسانية فيصبحون عالة على المجتمع او بالموت في المواجهات لناحية قلة خبرتهم بالسلاح والقتال وهذا ما يثير قلق المنظمات والهيئات والجمعيات الاهلية فان كان لا يوجد حتى اللحظة احصائيات او ارقام دقيقة عن اعداد الاطفال الذين تم تجنيدهم فان بعض التقارير تشير الى ان الاطفال الذين سقطوا جراء الاعمال الارهابية يزيد على 3000 طفل وهو ما اعتبره المحامي باسل نده «رئيس جمعية اهلية» مأساويا مشيرا الى الموت والخراب الذي طال مختلف نواحي الحياة ومؤكدا ان رؤية طفل يحمل السلاح هو امر يدعو للقلق ويتطلب الاستنفار وبذل الجهود.
حماية الطفولة
اشراك الطفل بأي عمل مسلح هو جرم لا يسقط بالتقادم سواء بالقانون المحلي او الدولي حسب بروتوكول حماية الاطفال الذي يمنع تجنيدهم او اشراكهم في صراعات مسلحة لذلك فان مقتل طفل واحد هو رقم كبير تتحمل مسؤوليته تلك التنظيمات الارهابية التي جندته الامر الذي يتطلب الرعاية الصحية والنفسية للأطفال لان الاثار النفسية من رعب ومعاناة يحملها الطفل معه في ذاكرة طفولته فينسى الاستقرار النفسي والاجتماعي ما يدخله في نفق مظلم من الاحباط فيتعاظم الاثر السلبي لديهم لذلك كان لا بد ان نصل بهم الى الدفاعات النفسية الذاتية لنعود بهم للتوازن والاستقرار من خلال التعاون الجيد والحديث المستمر لهم وشرح ما يحصل وزجهم مع مجموعات اطفال متماثلة عمريا لان الروح الجماعية تفعل الدفاعات النفسية اضافة الى ايصال المعلومة الصحيحة الكفيلة بإقناعهم بان ما نمر به حالة مؤقتة ستزول مع تعزيز معنى الشهادة لأجل الوطن وبأننا جميعا فداء له. وهذا يحتاج لتكاتف جميع الجهود الرسمية والاهلية من خلال تقديم برامج داعمة مادية ونفسية واقامة نشاطات رياضية وثقافية وفنية وتنظيم وورش عمل وانشاء أماكن صديقة للطفولة وتهيئة المدربين للتعامل مع الطفولة ذلك ان هذا الشكل من الوعي والاحتضان الوطني الفعال والتعاطف الشعبي الكريم والاقبال الشبابي الكثيف على التطوع لتدريب وتوفير متطلبات الطفولة يقلب الصورة والمشهد ويحقق تحولا مذهلا من البؤس والشقاء والقهر والجوع والمرض في المخيمات خارج الحدود الى الاستقرار والسرور في مراكز الايواء الوطنية .