لقد وجد المهاجرون الأوائل القارة الجديدة, وطناً كبيراً غنياً بثرواته, أرضاً ضخمة بمواردها تضمن الطبيعة أمنها وتعفيها من أي تهديد, فكانت مساحة كبيرة تنتظر الاستغلال والاستثمار ومن هنا كان الانطلاق وكانت البداية الحقيقية لقيام الولايات المتحدة الأمريكية على أساس الشركات الرأسمالية.
وبعد أن تطورت ونمت وكبرت صارت بحاجة إلى نظام تحميه, فاطلعت على التراث السياسي والقانوني العالمي, وأخذت ما يناسبها, وأسست لنظام سياسي وقضائي قوي, وتمسكت بمبدأ حرية التجارة والاقتصاد, فلم تسمح للدولة بالتدخل, انطلاقاً من أن ذلك يتعارض مع المبدأ الأساسي التي قامت عليه الولايات المتحدة وهي الحرية والمبادرة الفردية.
ومنذ ذلك الحين بدأت الشركات الرأسمالية بالتغلغل في الاقتصاد والمال وفي السياسة بما فيها انتخابات الرئاسة والكونغرس بمجلسيه, حتى غدت سلطة رئيس الولايات المتحدة والمؤسسات الدستورية الأخرى بدون تأثير, أمام قوة ونفوذ الشركات, إذ إن صنع القرارات والسياسات الهامة, تتخذ داخل مجالس إدارات الشركات وما على السلطات المنتخبة إلا الموافقة. وهذا ما اعترف به جيمس هيل باني شبكة سكك حديد جبارة إذ وصف الرئيس الأمريكي بقوله:(إنه رئيس مجلس إدارة الاحتكار الاقتصادي الكبير الذي اسمه الولايات المتحدة الأمريكية).
شاركت الولايات المتحدة في حربين عالميتين بغير مطلب أمن, إذ لم يكن هناك أي تهديد للقارة البعيدة في زمن لم يكن العالم قد دخل بعد عصر الصواريخ العابرة للقارات.
ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة بالتحدث عن ( المصالح الحيوية) وانطلقت الرأسمالية الأمريكية وجاءت من وراء المحيطات وورثت الامبراطوريات القديمة ووجدت أمامها أسواقاً وثروات غير محدودة.
ولتحقيق تلك (المصالح الحيوية), اتبعت ايديولوجيه متغيرة متبدلة حسب متطلبات ومتغيرات كل مرحلة, ووضعت نظريات غير ثابتة, فمن نظرية الاحتواء لترومان عام ,1947 ونظرية التراجع لأيزنهاور عام 1945 ونظرية الاحتواء العدوانية لكيندي وجونسون, ونظرية الردع المتبادل لنكسون وكارتر, ونظرية ريغان الخاصة بدعم الحركات المعادية للشيوعية والتي استكملت بانهيار الاتحاد السوفييتي في عهد جورج بوش الأب, ونظرية الاحتواء المزدوج لكلينتون, وصولاً إلى نظرية الحرب الاستباقية أو الوقائية للرئيس بوش الابن, التي ظهرت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وجسدت أيديولوجية من يطلق عليهم اسم (المحافظين الجدد) أصحاب مشروع القرن الأمريكي الجديد والذي أصبح يسمى عقيدة بوش أو مذهب بوش, إلا أن المبدأ الوحيد الذي بقي ثابتاً في كل الحقبات هو (تنفيذ المبدأ الذرائعي), الذي شكل العمود الفقري في السياسة الخارجية للولايات المتحدة, وتحركها عسكرياً واقتصادياً, وهو (العبرة بالنتائج), مهما تكن الوسائل والطرق, التي تتبع لتحقيق تلك النتائج.
وهذا ما أدى إلى نشوء تحالف المال والفكر والسلاح منذ بدايات القرن العشرين وبدأت ملامحه تظهر بعد الحرب العالمية الثانية, وتطور بشكل كبير بعد الحرب الباردة.
حيث هناك تعاون وثيق وتحالف بين مجتمع الصناعات الحربية ومراكز الأبحاث (الفكر), إذ إن أحد أسرار واشنطن الصغيرة هو أن السياسة ليست وليدة الأجهزة السياسية, بل هناك أفكار كثيرة تأتي من خارج الحكومة.
وأما تحالف المال (النفط) مع مجمع الصناعات الحربية فهو تبادل للمصالح, إن النفط هو ما يحرك الآلة العسكرية جميعها.
ومن المعروف أن الشرعية الدولية (قانون دولي منظمات دولية... إلخ) تطورت على مر التاريخ من تراكم خبرات وتجارب المجتمع الدولي, وتوصلت إلى تحديد معيار السلوك المقبول وغير المقبول للدول, حيث الامتثال لتلك الشرعية يؤمن الأمن والاستقرار والسلام العالمي.
لكن ماذا يحصل عندما تضع دولة عظمى كالولايات المتحدة نفسها فوق القوانين الدولية, وتلجأ إلى افتعال الازمات والفوضى البناءة لتحقيق مصالح فئة صغيرة من الرأسماليين .
في تقرير وضعه الصحافي الأمريكي (جيم مارس) المتخصص في الشؤون العسكرية والتقنية, حول الخلفيات الحقيقية لحرب (أمريكا على الإرهاب) يقول مارس:(إننا نسير في حرب جديدة من أجل النفط الذي كان السبب لجميع الحروب الحديثة العهد بدءاً بأوائل أربعينيات القرن العشرين مع الحرب العالمية الثانية فالدخول في الحرب يعود إلى الرئيس الأمريكي (فرانكلين روزفلت) الذي أوقف موارد النفط عن اليابان في صيف 1941 وهو بذلك ضمن أن تشن اليابان هجوماً على الولايات المتحدة, حيث إن روزفلت ومستشاريه كانوا على دراية تامة بأن بيل هاربر ستتعرض للهجوم في السابع من كانون الأول .1941ويقول بريجنسكي إن تأييد الجمهور مشاركة أمريكا في الحرب العالمية الثانية بشكل رئيسي يعود الى الصدمة التي أحدثتها مهاجمة اليابان لقاعدة بيل هاربر.وحروب الخليج الثلاثة كانت مناسبة لعرض آخر الابتكارات العسكرية والأمريكية, باعتراف جنرالات سابقين في الجيش الأمريكي, بالإضافة الى انفتاح الخليج أمام التدخل الأمريكي حيث محوره الأساسي النفط.
إن نفقات التسلح في العالم لم تنخفض تحت نسبة 60% (منذ انتهاء الحرب الباردة) من الحد الأعلى الذي وصلت إليه فالانخفاض النسبي العائد الى تقليص حجم عديد القوات المسلحة حل محله ارتفاع جديد قادته الولايات المتحدة..
أما التراجع السابق للنفقات العالمية فكان يعود بشكل أساسي الى الهبوط الكبير في النفقات العسكرية الروسية والتي وصلت الى خمس ما كان ينفقه الاتحاد السوفييتي عام 1985 في المقابل لم تتراجع النفقات الأمريكية عام 1998 سوى بنسبة الربع عما كانت عليه 1985 واليوم تنفق بقدر ما ينفقه كل العالم مجتمعاً. كما أن الولايات المتحدة قدرت تجاوز معاهدة الحد من الصواريخ الباليستية ABMالموقعة عام 1972 والاستعاضة عنها بمشروع الدرع الصاروخي, مما أثار حفيظة روسيا التي أعلنت أنها تفكر جدياً في تطوير نظام درعها الصاروخي.في غمرة تخلي الولايات المتحدة عن سياسة الطلب والحصول على ما تريده بالقوة وقعت حوادث 11/9 التي قدمت خدمة جليلة لمشاريع المحافظين الجدد ومموليهم من الشركات الرأسمالية الأمريكية حتى ساد الاعتقاد بتورطهم في هذه الحوادث بسبب المكاسب التي حققوها من خلالها. وإذا صحت هذه التكهنات, فإنه لن يكون بالأمر المستغرب (فالعبرة بالنتائج), وتاريخ الولايات المتحدة وبالطبع تاريخ الحركة الصهيونية, شهد مؤامرات من هذا النوع, بالإضافة الى عملية بيل هاربر فهناك مثلاً وثائق سرية تعود لعهد الرئيس جون كينيدي, عندما فشل التدخل الأمريكي في خليج الخنازير (كوبا), حيث وضعت هيئة الأركان العامة الأمريكية خطة أطلقت عليه اسم (woods north) تتضمن قيام أعمال إرهابية داخل الولايات المتحدة, واتهام المهاجرين غير الشرعيين من كوبا بتلك الأعمال وهذا ما يبرر أي هجوم مضاد لكن الرئيس كينيدي لم يوافق على ذلك. وقبل سنوات عدة تبين أن زعماء اليهود كانت لديهم علاقات وثيقة مع هتلر وإن النازيين تلقوا مساعدات مالية ضخمة من البنوك والاحتكارات الصهيونية, إذ أدرك منظرو وزعماء الحركة الصهيونية أن مشروعهم الاستيطاني لتهويد فلسطين لن يكلل بالنجاح, مادام اليهود يرفضون ترك أوطانهم الأصلية التي ولدوا وعاشوا فيها.. لذا لم يتورع مؤسسو الحركة الصهيونية عن مشاركة أعداء السامية في تدبير وتنفيذ المجازر وحملات الإبادة ضد اليهود(الهولوكست) لحملهم على التماس النجاة بوسائل نقل أهدتها الوكالة اليهودية.
إذاً ليس من المستبعد تورط الأمريكيين في هجمات 11 أيلول وغيرها من الأعمال الإرهابية, يضاف الى ذلك العلاقة الوثيقة بين الصهاينة والأمريكيين, فلديهم العقل المدبر والمخطط نفسه والإدارة الأمريكية تخضع لعملية تصهين مستمرة حيث يسخر المعلقون الإسرائيليون من شدة موالاة بوش لإسرائيل فيقولون: (إن بإمكان بوش بكل سهولة أن يحل محل شارون كمتحدث رئيسي في مؤتمر حزب الليكود).
لقد أصبح السلاح الركيزة الأساسية في الايديولوجيا والفكر الأمريكي وهذا ما عبر عنه رئيس الدولة العظمى جورج بوش صراحة في 6 حزيران 2004 خلال الاحتفال بذكرى إنزال النورماندي في فرنسا حيث قال:( لا يمكن أن نحيا بكرامة إلا بعنف الحروب).
وتقول وزيرة الخارجية الأمير كية الحالية (كوندوليزا رايس): إن الحق الذي يضمنه الدستور الأمريكي للأمريكيين باقتناء سلاح, هو بالأهمية ذاتها لحقهم بحرية التعبير عن الرأي وممارسة شعائرهم الدينية .. ويضمن الدستور التنظيم الجيد للمليشيات وحق الشعب باقتناء واستخدام السلاح.
والأمر الخطير أيضاً الفكرة السائدة بأن الحروب تؤدي الى تنشيط الاقتصاد ومن أجل إنقاذ النمط الرأسمالي الأمريكي المعولم من الانهيار يتم اللجوء الى الحلول العسكرية, هذا ما يدعو إليه مدير صندوق النقد الدولي ( كوهلر), إذ أعلن بأن حرباً قصيرة ضد العراق يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على الاقتصاد .. , لنجد بأن رئيس مؤسسة مالية بدلاً من أن يعالج المشكلات الاقتصادية يؤيد شن الحروب والدمار.
هكذا أينما وجدت القواعد العسكرية, سواء كانت للتجسس أم للقوات أم للاثنتين معاً, فإن هذه القواعد متواجدة لحماية ( الأمن القومي الأمريكي),. وأينما وجدت المواقع الاستراتيجية والثروات المعدنية والأسواق التجارية, والبحار والمحيطات والمواصلات, فإن هذا كله (للأمن القومي الأمريكي) , ولذلك أي شعب يعمل لاسترداد ثروته وإمكانياته الطبيعية والجغرافية والاقتصادية يكون قد ألحق ضرراَ (بالأمن القومي), ويحق للولايات المتحدة محاربته. ومقتل مليون طفل عراقي بسبب عدم توفر الغذاء والدواء جراء الحصار بعد حرب الخليج الثانية كان ضرورياً (للأمن القومي الأمريكي), وهذا ما لم تخفه السيدة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة علناً وعلى وسائل الإعلام(إذا اقتضت مصالح أمريكا أن يموت المزيد من الأطفال فإن ذلك سيحصل).
وأما الأهداف السلمية, والأمن والحرية والديمقراطية فصارت ( ورقة التوت) التي أخفت وتخفي وراءها أشد أنواع التدخل وحشية بالطرق العسكرية وغير العسكرية أيضاً.
باحثة في العلاقات الدولية