ندور على ذاتنا ثم نحاول أن نندفع وندافع في خضم الوصف والتمجيد حتى لكأن المسؤولية قد أنجزتها غزة وليس علينا إلاّ أن نقيم المهرجانات في موكب هذا الصمود العظيم.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن تفلت اللحظة من العرب وأن يتحول الحدث نفسه إلى ركن من الماضي بدلاً من اطلاق نتائجه المهمة على الواقع واستخدام ما تحقق كمنطلق ورافعة لزمن عربي قادم مفعم بالمخاطر والاحتمالات الصعبة. لعلنا نتفق بأن غزة أنجزت منسوب الحدث التاريخي وهذا بذاته يستطلع آفاق ما يجب أن يكون عليه حالنا إذ الحدث الكبير هو مقومات ثلاثة كما هو مستقر تاريخياً وعلمياً، أما المقوم الأول فهو الموقف وقد توضحت أبعاده في غزة، هناك صراع إرادات وهناك عدوان شامل بالمعنى العسكري والسياسي والتبصر بقوى وموجودات الواقع العربي والإقليمي والعالمي واضح للعيان متجذر الحضور. إن غزة استقطبت عناصر الوعي ومفاصل الصمود واختزلت في موقفها صبوة الأمة وتطلعات الأحرار في كل مكان على الكرة الأرضية، الموقف إذاً واضح متجذر في الواقع وهو في عمق كل قرار وعلى زناد كل بندقية مقاومة.
وأما المقوم الثاني فهو مستوى التضحيات في غزة بكمها الذي لا ينتهي ومستواها النوعي الذي تجاوز حدود كل ما هو معروف أو متوقع في تاريخ البشر، علينا أن نتذكر أن الجريمة الصهيونية كانت كاملة وقد استشرت وتوحشت ،كان كل السلاح المتطور والنوعي يمارس دوره في تدمير البيوت والمدارس والمعابد والمؤسسات الدولية وكذلك في هذا القتل الجماعي وقد تبدت فيه ظاهرتان لا مثيل لهما في التاريخ، قتل الأسر بكاملها كظاهرة أولى والقتل الجماعي للأطفال والنساء والشيوخ دون أن يتحرك في الضمير العالمي أي شيء وهذه هي الظاهرة الثانية.من هنا كان هذا الإلحاح الوجداني على أن تؤخذ هذه التضحيات السامية في غزة بوصفها تاريخاً حياً وليس مجرد صور سوف تصبح غداً أو بعد غد مجرد ذكريات.
إن الدم المطلول هنا هو أمانة حرام في عنق كل عربي ومسؤولية كبرى عند كل إنسان حر طبيعي على امتداد مساحة العالم وكما الدم المسفوح كذلك الدمار الذي تناول الشجر والحجر والأثر وهو لن يكون بأي معنى مجرد أطلال نتباكى على أكوامها.
إن التضحيات هنا هي تعبير موضوعي وانفعالي عن تكوين إيماني جهادي رصد المناخ العام للمواجهة فكان هذا الأداء المنبعث الذي ارتقى إلى مستوى المهمة التاريخية ومستوى هذا الصراع الحاسم ثم يأتي المقوم الثالث وهو الذي يتصل بالتوظيف السياسي والمعنوي للحدث برمته وهذا هو دور النخب والإعلام والأحزاب وهيئات المجتمع المدني وهذا هو سبيل الثقافة والفكر والخطاب الديني والاجتماعي وحينما لا يحدث مثل هذا الاستثمار السياسي والفكري والاجتماعي لحقائق ومكونات الحدث في غزة نكون قد تحولنا مباشرة إلى مجرد مهرجين وشهود زور ينتفعون من الحدث في اللحظة الدارجة ثم يمضي كل إلى سبيله وغايته وتترك هوامش حائرة ضيقة لأيام عصيبة مقبلة وأعوام مترهلة متثاقلة هذه هي المنظومة التي تحيط بالحدث الغزاوي بتفاعل وائتلاف منظومة الموقف والتضحيات والتوظيف السياسي والاجتماعي وهناك بالتأكيد إرادات عربية رسمية وغير عربية تحاول أن تقتطع الحدث من سياقه ثم تجهد كي تذروه على صيغة أجزاء متناثرة بانتظار أن يعفو عليها الزمن وأن تدخل الذاكرة بعد ذلك في رقاد مزمن، ليس هو بالتأكيد رقاد أهل الكهف. وبهذا المعنى فإن طريقة التعامل العربي الرسمي وشبه الرسمي مع الأحداث الكبرى في تاريخنا العربي القديم والمعاصر تقوم على فكرتين صعبتين، الأولى أن يرحل الحدث بما فيه ومن فيه إلى الجزء الخلفي من الذاكرة بحيث يتبرد مع مرور الأيام ويصبح مجرد علامات كانت ومادة للاستذكار وليس للاعتبار وأما الفكرة الثانية وهي الأشد صعوبة فهي التي تتمثل بإغلاق الآفاق على الحدث الانبعاثي خوفاً من تداعياته وتهرباً من استحقاقاته وهذا ما يحدث عادة حيث تنفصل الوظيفة السياسية بالاستثمار عن جوهر الحدث ومعالمه ولا يحسن العرب الرسميون عادة استقطاب المعاني التي يقدمها الحدث الكبير، نتذكر الآن هذا الواقع في الموقف من حرب تشرين المجيدة على سبيل المثال وليس الحصر إذ سرعان ما تجري عملية الفصل بين الحدث وتأثيراته الاجتماعية وأكثر من ذلك هناك توجه مشبوه مخيف يظهر عادة بعد الأحداث الكبرى وتجري محاولات فيه لاستنباط التناقض وتفسير الدم والصبر والمجاهدة باعتبارها حالة خاصة وامتيازاً جهوياً ومع تواتر الأحداث تندفع التناقضات وتنسى المعاني الكبرى للحدث وهي التي كان لا بد من التوحد عليها والاندماج بها ورفعها إلى مستوى التبني والمسؤولية.
إن الخطر الأكبر يدفع الخطر الأصغر والرؤية الذاتية تذوب في أفق التحول الكبير كما هو الحال في حدث غزة لكن الذي يحدث هو عكس ذلك تماماً كان الحدث الكبير بالأمس في المقاومة الوطنية في العراق الشقيق وسرعان ما حاولوا توظيفه على أنه صراع داخلي بين إثنية وأخرى وطائفة وأخرى ومذهب إسلامي وآخر وكان الحدث الرائد بالأمس في جنوب لبنان وقد تفوق على أحلام اليهود ومن معهم وقدم درساً في التضحية والسلوك والنظافة ما يكفي لكي يجذبنا إليه من مراقدنا ويأخذنا إليه من أهوائنا ومصالحنا الضيقة، الآن استنفرت ماكينة الشر والتجميد كل أسلحتها لتقول في المآل: إن ما حدث في جنوب لبنان هو مجرد منصة لرسم حدود الخلافات المجانية بين موالاة ومعارضة وأكثرية وأقلية، رؤى استحدثوها وأسماء لم تكن تخطر إلاّ على بال الشيطان وها هو الحدث التاريخي في غزة، تجري كل المحاولات لإخضاعه لذات المنظور ولذات الهدف المشؤوم. كان الأصل والطبيعي أن نتوحد على غزة وأن نكتشف إلى أي مدى كنا ضائعين ومخدرين ومضللين لكن الخوف والتخوف هو أن يحاط الحدث في غزة بأوصافه المعتادة ثم تأتي المصالح الضيقة والاعتبارات الهجينة لتجهض استثمار هذا الحدث سياسياً وتربوياً فتصبح المسألة مجرد خلاف وتعبير عن مواقع ووقائع مقسومة منقسمة، لعل ذلك هو الخطر الأكبر مالم نتنبه لقواعد الصراع والمهمة الحيوية في التوظيف والاستثمار بما يؤكد قيمة الحدث وقوته.