بيد أن هذه الحميمية القومية في التعاطف مع صباحي تستدعي التدقيق, ليس وحسب في أداء الناصريين المصريين حيال مرسي والفريق, بل في أداء التيار القومي العلماني حيال موضوعات الصراع المحتدم في الدنيا العربية, وبخاصة حيال هجومية التحالف الإمبريالي-الإسلاموي.
الوزيرة كلينتون عبرت عن هجومية التحالف بعد أن قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر 14/6/2012 ببطلان “قانون العزل السياسي” الذي سنه برلمان الكتاتني, وبما يواصل معه الفريق أحمد شفيق المنافسة على الرئاسة, مقابل محمد مرسي.
الوزيرة قالت: “نأمل أن تنتقل السلطة في مصر إلى المدنيين”.
و”المدنيون” المعنيون هم الإسلامويون: إخوان وسلفيون, الذين هيمنوا على أكثر من ثلثي مقاعد مجلس الشعب, وعلى البيئة السياسية المؤاتية التي أوصلت مرسي إلى المرتبة الأولى في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة. وهي البيئة التي خرقها حكم المحكمة الدستورية, وطعن في شرعية هيمنة الإسلاميين على برلمانها, فوق إبطال عضوية ثلث المقاعد. ما شكل صدمة للإسلاميين والأمريكيين معا.
نفاق كلينتون في تعبيرها الموارب عن صدمة رأس التحالف الإمبريالي-الإسلاموي, جاء مشفوعا بخطاب اخونجي, تكثف بعنوان “التواطؤ بين القضاء والمجلس العسكري”(!!!).
جلي أن وجهة التحريض ضد هذا “التواطؤ”(!) تتسع لما هو أشمل من طرفيه: القضاء والعسكر, لتضم القوى المعيقة لسطو الإسلامويين على السلطة في مصر: التشريعية والتنفيذية والقضائية, ووجهة القرار والعقيدة القتالية.
وهنا مناط “مدنية” الإسلامويين ذات الحظوة عند واشنطن, التي تؤازرهم ضد مجلس عسكري ذي صلاحيات دستورية تبعث قلق التحالف الإمبريالي-الإسلاموي من أن يختزن بعض أعضائه عبد الناصر جديدا.
لماذا كل هذا التربص بالناصرية؟
ليس في الأمر شخصنة, بل إن التربص ينصرف إلى العقيدة الاستراتيجية التي اعتنقها الرئيس الراحل منذ عقود, والتي تفسر حماسة واشنطن لعقد التحالفات مع الإسلامويين ومختلف طيوف الرجعية العربية المناهضة لهذه العقيدة ومن يعمل طبقا لمتطلباتها.
نقطة المركز في هذه العقيدة هي الصراع بين المشروعين المتناقضين تناقضا وجوديا: المشروع القومي العربي, والمشروع الصهيوني.
وقد سبق لديفيد بنغوريون أن سأل مستشاريه بعيد ثورة تموز 1952 عما يفعل “البكباشي ناصر”. فأجيب: إنه يعيد بناء مصر. فوجَّههم آمرا: “استعدوا للحرب”.
وهذا يفسر تاريخ التربص الإمبريالي الرجعي (وفيه الإسلاموي) بالعقيدة القومية العربية الاستراتيجية التي تبني الرموز فيها متطلبات التناقض مع المشروع الصهيوني.
وبين يدينا واقعتان تزخران بالدلالة.
الأولى: قال الرئيس بشار الأسد, لدى استقباله في 13/6/2012, أحمد جبريل القائد الفلسطيني المقاوم: “إن القضية الفلسطينية كانت وستبقى بوصلة الشعب السوري”.
اذ أن الراشدة في هذه البوصلة هي التي حددت وجهة الرئيس الراحل حافظ الأسد يوم حاد عن مواكبة السادات وهو يتجه إلى “اسرائيل” 1977.
وهي الراشدة عينها التي أوجبت على دمشق الامتناع عن التوجه إلى شرم الشيخ 1996 للانغماس في مؤتمر مكافحة واشنطن للمقاومة.
وهذه الراشدة الفلسطينية طهّرت تاريخ سورية الحديث من ملوثات الانسحاب من المسؤولية القومية تحت شعار “بلدي أولا” الذي عصف ببلدان عربية 2003 لدى اجتياح الولايات المتحدة للعراق.
وهذه الراشدة هي المستهدفة في هجمة التحالف الإمبريالي-الإسلاموي الراهنة على سورية لتشكيل “شرق أوسط جديد”, مثلما كانت مستهدفة في حرب تعريب كامب ديفيد 1977-1982.
ثم إن هذه الراشدة هي التي صانت لسورية عقيدتها الاستراتيجية القومية, وحالت دون انزلاقها في خيارات إقليمية فاسدة.
الثانية: هي التي حملت تموضع الرجعية العربية في الخندق الإمبريالي, والموجبة للمراجعة يوميا منذ نحو 58 عاما, وحتى يومنا الحاضر. وهذه الواقعة هي محاولة اغتيال عبد الناصر في الاسكندرية 26/10/1954.
فقد احتفظ ناصر على المنصة يومئذ برباطة جأشه بعد أن أطلق فريق الاغتيال في جماعة الإخوان المسلمين الرصاص بقصد قتله.
واحتفظ أساسا بقامته مديدة, صائحا بالناس: “فليبق كل في مكانه أيها الرجال. حياتي فداء لمصر”.
أي أنه لم ينحن في المقتضيات التقنية للموقف الناشئ, والمطموع فيه, من قبل مخططي الاغتيال الإسلامويين, وهو البلبلة, وما يليها من تداعيات سياسية على مكانته ودوره. بل إنه عاين الموقف الصائب لإحباط غاية مدبري الاغتيال بقوله: “يا أهل مصر... قمت من أجلكم. وسأموت في سبيل كرامتكم”.
وبين الواقعتين السورية والمصرية خيط يفسر الكيدية الممتدة للتحالف الإمبريالي-الإسلاموي بكل فصائله ودوله العربية وأدواته “المجاهدة”(...) ضد البوصلة الفلسطينية التي تهتدي بها سورية إلى صراطها القومي المستقيم, وضد استجابة عبد الناصر لتلبية احتياج المجابهة مع المشروع الصهيوني ببناء مصر.
فهل يحمل الملتحفون باسم عبد الناصر هذه الأيام مناقبيته في تحديد الأولويات؟
في شأن مصر الداخلي, الأمر متروك لفصائلهم في استخلاص ما يجب من تشتيت أصواتهم بين مرشحي تيارهم: خالد علي وأبو العز الحريري وهشام البسطويسي وحمدين صباحي.
أما كرامة مصر التي اعتصم بها عبد الناصر بشجاعة وهو في مرمى النار الرجعية, فإن سورية تدافع عنها بصيانة الراشدة القومية التي تقررها بوصلة فلسطين, وتملي استنهاض مراجعة قومية لتموضع الإسلامويين, في خندق المشروع الصهيوني.
Siwan.ali@gmail.com