تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


تشكيل.. في وداع الناقد والباحث صلاح الدين محمد.. التحليل الهندسي والبعد التاريخي والحضاري

ثقافة
الاربعاء 11-5-2016
أديب مخزوم

رحيل الناقد التشكيلي والباحث الأثري صلاح الدين محمد، صباح الأربعاء 4-5-2016 لم يكن بالخبر المفاجىء، كنا على معرفة مسبقة، بتدهور حالته الصحية،

‏‏‏

من خلال التقارير الطبية اليومية، وقبل أشهر من إعلان الخبر المحزن، الذي انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وترك في عيون وقلوب محبيه، حزناً لاحدود لنهايته، كانت ضبابية أحلامي، أكثف بكثير من رمادية تموجات الضباب الخارجي، الذي شاهدته في ذلك الصباح، والذي نتلمسه في هذا الزمن الصاخب بالانكسارات والمآسي والأحزان والويلات.‏‏

لم يرحل صلاح الدين محمد، فالكبار لايرحلون، وكتاباته ولمساته، تحمل القدرة المطلقة على البقاء والتفاعل مع ذاكرة الفن وذاكرة الثقافة وذاكرة الإبداع. فهو يشكل علامة فارقة في النقد التشكيلي المحلي والعربي، وحساسيته البصرية والروحية العالية والنادرة، جعلته يكتب بالعربية والإنكليزية، وينفتح على معطيات ثقافية متجددة، تتصالح مع ذاتها وتتواصل باستمرار.‏‏

‏‏‏

كان راهب الفن بامتياز، لايكتب ولا يتحدث إلا عنه، حتى في أقسى فتراته المرضيه، وقبل رحيله بساعات معدودة، قلت للفنان أنور الرحبي، إن هاجسي دعوة الفنانين الى إقامة معرض جماعي، يكون بمثابة تحية وتكريم لجهوده ودوره الحيوي، وتحدثت مع الراحل الكبير وأسرته بهذا الخصوص، إلا أن الغياب جاء سريعاً، ولا تزال فكرة المعرض التكريمي قائمة، لأن الحلم الفني، أكبر من الجرح.‏‏

على الصعيد العربي والعالمي‏‏

وهو من مواليد 1949 واختير عضواً في هيئة تحرير مجلة الفن العربي الصادرة عن الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب 1981والهيئة الاستشارية لمجلة فن الصادرة في لندن 1987 كما أنه من النقاد العرب القلائل الذين يكتبون بلغة نقدية تشكيلية خاصة بالعربية والانكليزية، والمعروف عنه دوره الريادي في اعداد الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية المتخصصة في الفن التشكيلي، ومن المساهمين البارزين في رسم الصورة الثقافية للحركة التشكيلية على مدى أكثر من نصف قرن، ولقد قام بتأليف كتاب تحت عنوان: الشام الجديدة، صادر عن التجمع التعاوني السكني للنقابات المهنية في دمشق 1996، وهو يضاف الى سلسلة بحوثه وكتبه ودراساته.‏‏

من الهندسة إلى التشكيل والنقد‏‏

صلاح الدين محمد، مهندس معماري، وجد نفسه في الفن والتأليف والبحث والتقصي، وانجز اكثر من أربعين فيلماً سينمائياً، وهذه الافلام تكتسب أهميتها، بعد صدور سلسلة من الكتب التزويرية والمكتنزة بالأخطاء والمغالطات، ولا سيما في العقد الأخير. هكذا فتح له تخصصه في الهندسة المعمارية، المجالات الشاسعة لرحلة الكشف النقدي التحليلي، على اعتبار ان الفن التشكيلي هو جزء من العمارة، وشكلت لوحاته، التي كان يرسمها ويعرضها في السبعينات والثمانينات، والتي يمكن ادراجها في اطار الواقعية القصوى، المدخل لدخول عالم الكتابة النقدية في الفن التشكيلي. حيث شارك في اكثر من مئة ندوة محلية وعربية ودولية، كان اولها عن تأثير الفن العربي على الفن الغربي، في مقر اتحاد الكتاب العرب بحلب 1974، وأهمها الندوات الدولية الموازية لبينالات وترينالات القاهرة والكويت 1994-1993- 1996 - وقام بتنظيم العديد من الفعاليات الثقافية الكبرى، مثل مهرجان المحبة والسلام باللاذقية (1992).‏‏

أفلام وبرامج تلفزيونية تاريخية وتشكيلية‏‏

والمعروف عنه عشقه المزمن لمعطيات الحضارات الانسانية المتعاقبة، منذ العصور الحجرية الغابرة في فجر التاريخ حتى فنون مابعد الحداثة، وثقافته الواسعة والمتشعبة والمتنوعة المصادر في هذا المجال، ونشير هنا الى مكتبته الغنية بكل ماهو نفيس ونادر من امهات المجلدات والكتب والمطبوعات الاجنبية والعربية، والتي تركت أثرها الواضح على بحوثه وكتاباته وبرامجه، ولقد برز هذا بوضوح في برنامجه التلفزيوني (آفاق حضارية) الذي قدم فيه المزيد من الوثائق التاريخية النادرة، التي هي خلاصة وثمرة عمر من البحث والمتابعة والتقصي، والتي تقدم أجوبة نهائية لتساؤلات اشكالية، رافقت سطوع حضارات وأفول أخرى، مركزاً على ابراز الأثر الذي تركته الحضارات السورية المتعاقبة على معطيات الحضارات الغربية، على صعيد العمارة والفن.. كل ذلك بلغة النقد التطبيقي وبالصورة المقارنة، وعلى سبيل المثال قدم الدليل القاطع أن بعض المعالم المعمارية الحضارية في دمشق، شكلت مصدر الهام لدى معماريين أجانب قاموا تشييد معالم معمارية شهيرة على غرارها.‏‏

ولقد منح ميدالية ذهبية وشهادة تقدير عن مشاركته في الندوة الدولية عن فن الغرافيك في القاهرة 1993 وميدالية ذهبية وشهادة تقدير عن مشاركته في الندوة الدولية، عن فن مابعد الحداثة في القاهرة 1994وميدالية ذهبية عن عضويته في لجنة التحكيم الدولية في بينالي القاهرة، والدرع الذهبي عن مشاركته في الندوة العالمية عن الحضارة العربية في الكويت 1996 والجائزة الفضية للبرامج الثقافية في مهرجان الاذاعة والتلفزيون في القاهرة،عن فيلمه الحضارة الاسلامية في سورية 1996 وشهادة تقدير من نقابة الفنون الجميلة عن مساهمته في ابراز دور الفن التشكيلي، وميدالية عن دوره الاعلامي 1996 وهو عضو استشاري في المعهد الامريكي للسيرة الذاتية (abi) الذي يختار مشاهير العالم ويصدر (who whos).‏‏

ولقد برزت اهتمامات صلاح الدين محمد بالموسيقا، وركز لاظهار كيف استقى الغرب معظم آلاته الموسيقية من الشرق،ولقد دعم ذلك بوثائق من أرشيفه النادر، وفي هذا الاطار له دوره الحيوي في ادارة مهرجان الأغنية السورية (1993-1995-1996) بصفته مسؤولاً عن لجانه الثقافية.‏‏

هكذا برز دوره الريادي في بلورة الاتجاهات النقدية الحديثة، التي يمكن أن تثمر في المستقبل بظهور جمهور عريض للفن التشكيلي، على غرار الفنون الأخرى، عندئذ تتحول كل الأعمال التشكيلية إلى ظاهرة جدلية تواكب التطور التكنولوجي، وتشارك في تكوين الذوق العام. فالمعرفة الجمالية المعاصرة، المقروءة في بحوثه وأفلامه وبرامجه تشكل منطلق الاحساس والتذوق وعصب ثقافة العين والروح،والمدخل الحقيقي لتنمية الحساسية الفنية البصرية لدى الجمهور، هذا إلى جانب اهتمامه بمحاولات اختراق حاجز الاتجاهات التربوية الفنية الراكدة من مفهومها الكلاسيكي، الى مفهوم عصري متقدم، يمكن من خلاله للمشاهد أن يقرأ ويعيش داخل العمل الفني ويكتشف جمالياته عبر لغة شاعرية قريبة من عواطفه وأحلامه، فالمتلقي هنا ينفعل داخلياً مع اللوحة أواللوحة ويصبح أكثر تفهماً للعمل الذي يجذبه ويثير انتباهه.‏‏

مقاربات هندسية‏‏

ولقد كان الراحل الكبير، أول من اكتشف سرقة توفيق طارق للوحة المسماة «ابو عبد الله الصغير»، والتي هي في الاساس منسوخة عن لوحة استشراقية لبول لويس بوشار انجزها عام 1893ومنشورة في كتاب يحمل عنوان: orient in westernولقد عرض اللوحتين المتطابقتين في نهاية الثمانينات، في برنامجه التلفزيوني، ثم أثيرت القضية في محاضرات وندوات وصحف عديدة. وفي عودة الى النص النقدي، الذي كتبه عن الفنان الراحل لؤي كيالي، في الكتاب الذي صدر عام 1999 نجده وظف خبرته في التحليل الهندسي المقارن، وهذا ما ذهب اليه ايضا في كتابه عن حياة وفن عزالدين شموط.‏‏

وهناك فرق شاسع بين الدخول إلى عالم الشرق في شكل مفتعل وبين استعادة الطابع السحري لأجواء التراث العربي كما قدمه صلاح الدين محمد بطريقته الخاصة، التي توقظنا على حقيقة جديدة، هي حقيقة الانطلاق في رحاب التاريخ الحضاري، الذي ترك تأثيرات سحرية ومباشرة على معطات الحضارات الغربية. وتأصيل عناصر ظهور نهضة تشكيلية عربية جديدة وخاصة ومغايرة لطروحات الثقافة الأوروبية المعاصرة.‏‏

من أين لي أن أجد كلمات، أرثي بها استاذي وأخي وصديقي الفنان والناقد التشكيلي والباحث الأثري والإعلامي والمهندس المعماري والمترجم صلاح الدين محمد، الذي رحل بعيداً عن عالمنا اللاإنساني، بعد معاناة مريرة مع المرض، لم ننقطع خلاله عن التواصل، حيث كنت على تواصل معه بشكل يومي، وحين كنت أتأخر عنه كان هو يتصل معي، رغم ظروفه الصحية القاسية. كل الكلام لايكفي في وداعك صديقي، ورحيلك خسارة كبيرة للفن والثقافة والقيم الإنسانية، وكلمة للتاريخ: أنت الذي اكتشفتني، ووجهتني نحو الكتابة النقدية في الفن التشكيلي، ونشرت لي أول مقالة في هذا المجال منذ اكثر من ثلاثين عاماً،.. وللكلام والحزن صلة، صلاح الدين محمد، سيعانق كما قال لي نجله خليل، إلى الأبد تراب وجذور أشجار بلدته عفرين، المطلة على السهول والواحات المترامية الأطراف.‏‏

facebook.com/adib.makhzoum‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية