تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


العمـارة الشافيـة مـن الحـزن

ثقافة
الاربعاء 11-5-2016
سوزان إبراهيم

كلما استبد بي الحزن أمضي إليها, ولأن أمي رحلت, ألجأ إلى أمي الكبرى: دمشق.. أمشي في حاراتها وأزقتها وأسواقها, لا أعرف ما الإكسير الذي تستخدمه دمشق القديمة لتحيل الحزن فقاعات خفيفة تتصاعد بهدوء بكل ألوانها القزحية ثم تنطفئ هناك!! ما السر الذي تمتلكه تلك الحارات والأسواق وما الذي يميز تلك البيوت العتيقة,

ما الذي يجعل من زيارةٍ لخان أسعد باشا أو لقصر العظم دواءً شافياً للحزين!‏

يتميز البيت الدمشقي (أو العربي كما درجنا على تسميته) بكثرة أبوابه ونوافذه وشرفاته, كما تتميز البيوت كلها بحنوها على بعضها البعض, كل بيت يريح كتفه على كتف البيت الذي يليه, وهكذا تبدو الحارة للناظر كبيت واحد كبير ممتد أو كأسرة دمشقية عريقة ممتدة الجذور تقيم كلُّها مع بعضها البعض منذ الجد وحتى الحفيد!‏

لن تغريك عمارة دمشق القديمة فقط, بل وكفتاة توحي بفتنتها من خلف شفّافٍ, سوف تستدرجك لغواية الكشف, البيت الدمشقي بسيط من الخارج, لا زخرفات ولا بهرجات, فكيف استطاعت هذه البيوت أن تُبقي عوالمها الداخلية الغنية والجميلة والحميمة بعيدةً هكذا, وفي نفس الوقت تزرع الفتنة والغواية في طريق السائر ليكتشف ما في الداخل من جمالات؟!‏

البيت الدمشقي ينفتح بكل سحره على الداخل: بُحيْرتُه التي تتوسط «أرض الدار» والياسمين المستريح على وجه مياهها أو بتلات الورد.. أشجار النارنج والكبّاد والأكي دنيا, أصص الورد ونباتات الزينة التي ترتاح في الظلال, العمارة والزخرفات والمنمنمات والأشغال الخشبية والسقوف والثريات والشرفات والنوافذ.. يا إلهي كل مفردة في البيت تشي بحكاية المهارة والجمال والانفتاح, ورغم كل هذا الألق يبقى البيت مغلقاً من الخارج, ويحرص أهله على عدم كشف أي شيء من فتنته للمارين أو للعابرين قربه!!‏

كل هذه النوافذ والأبواب وكل هذه الشرفات تشير إلى انفتاح وإطلالة ومدى.. ناهيك عن فسحة وسط البيت تبقى مفتوحة على السماء كمرصد لمراقبة أحوال الغيم والشمس والقمر والحمام والستيتيات.. كل هذا العالم الجميل والحميم يبقى بعيداً عن الكشف للآخر!‏

كتب شاعر سوري: «تميز البيت العربي بكثرة نوافذه وأبوابه وشرفاته ومع ذلك ظل العقل العربي مغلقاً!»‏

يستطيع العقل العربي أن يكون منفتحاً ومطلاً فقط على ذاته, وهو مازال يخشى بناء جسور مع الآخر وهذا قد يكون مُبرَراً أحياناً كنوع من الحرص على الهوية المحلية أو الوطنية أو القومية أو أي هوية أخرى, وهذا ما يقودنا إلى مسألة الهوية وهي مسألة شائكة والخوض فيها له مخاطره ومحاذيره.‏

من الجميل أن نمتلك هوية خاصة ومتمايزة عن كل الآخرين شريطة عدم التعصب أو عدم الانغلاق والانطواء واعتبار كل آخر عدواً محتملاً متربصاً!‏

هل يمكن أن يكون للعمارة كل هذا التأثير على طريقة التفكير أم أن ذلك معكوس تماماً: التفكير هو الذي يؤثر على اختيار شكل العمارة ووظائفها؟!‏

الفكر والعمارة لعلهما توءمان يحتاجان منا الكثير من الدراسة والبحث لنرى التأثيرات المتبادلة على مر الزمان.‏

كل ما سبق لن يجعلني أغيّر رأيي في قدرة دمشق القديمة على شفائي من نوبات حزن تدلهم وتحاصر وقتي.. يكفيني منها الآن قدرتها السحرية المستمدة من حكايات الزمن الجميل الذي مضى وترك آثاره تدل عليه!‏

suzan_ib@yahoo.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية