لكن الدراسة هنا مختلفة وهي عن تقدم العقل البشري، حيث استعرض البروفسور جيمس فلين في مقابلة قضية تقدّم العقل البشري عبر الزمن, و مقارنة مستوى الذكاء في الحاضر مع مستواه في الماضي القريب, و تباينات معدلات الذكاء بين الأجيال والجنسين و الأعراق و البيئات المعيشية المختلفة. يرى فلين أن جيل الشباب في يومنا يتمتعون بكثير من سبل التفكير التي يسبقون بها جيل آبائهم. إنهم أقل خضوعاً و أكثر ميلاً للتفكير من تلقاء أنفسهم دون توجيهات, لكنهم في المقابل لا يعرفون الكثير عن التاريخ و الفلسفة و الأدب لأنهم لا يقرؤون. فعلى سبيل المثال أطفال المدارس لم يحرزوا إلا تحسناً بسيطاً في رصيدهم من المفردات بينما يملك البالغون رصيداً أكبر بكثير, و ذلك يشير إلى فجوة بين الجيلين, بين الآباء و الأبناء.
هل تزداد أدمغتنا ذكاءً على مر الزمن؟ يقول فلين: « لم نتطور في تعاملنا مع العالم من حولنا لكننا تطورنا في التعامل مع المفاهيم المجردة.. إنني أفضِّل أن أقول إن أدمغتنا أصبحت أكثر حداثة.»
البروفسور جيمس فلين فيلسوف في الأخلاق يعمل الآن في جامعة أوتاجو, نيوزيلندا. و قد كرس الثلاثة عقود الماضية من حياته لدراسة الاختلافات في معدلات الذكاء بين أكثر من ثلاثين دولة, و جمع بيانات بحثه في وثيقة تعرف ب «أثر فلين» (Flynn Effect) في عام 1984 فبعد دراسته للبيانات توصل إلى أن مستويات الذكاء ترتفع بمعدل ثلاث نقاط في العقد الواحد منذ أن بدأ في قياسها في أوائل القرن العشرين. و هو يُعِدُّ الآن لكتابه «هل نزداد ذكاء؟ مستوى الذكاء الصاعد و القرن الواحد و العشرون».
لقد أدى هذا الاكتشاف إلى جدل حول ما يحدد الذكاء و كيف يتم اختباره, و دور عوامل مثل المورّثات و البيئة و الطبقة و العرق و الجنس في نتائج اختبارات الذكاء. يقول فلين إن قياسنا لتغيرات مستوى الذكاء عبر الزمن هو أمر معقد: فهل تعكس تلك التغيرات ارتفاعات حقيقية في القدرة العقلية أم أنها تظهر تغيرات تقتصر على المهارات ذات الصلة باختبارات قياس الذكاء تلك فحسب؟
و يُضيف: «عندما يسألني الناس فيما إذا أصبحنا أكثر ذكاء ممّن كانوا عام 1980 فإنني أقول التالي... أولاً—هل تحسنت أدمغتنا في مجال الإدراك؟—لم تتحسن, فلا يحدث التطور الدماغي خلال مجرد بضعة أجيال و على الأغلب فإن الصلات الدماغية الأساسية في مجال الإدراك اليوم تملك نفس المستوى لتلك التي كانت موجودة عام 1900.
ثانياً—هل تختلف أدمغتنا من ناحية التشريح؟—إن الدماغ يشبه العضلة و نحن نمرّن أدمغتنا بشكل مختلف اليوم عن طريقة تمرين الناس لعقولهم في عام 1900. على سبيل المثال كان الناس أكثر نفعيّة في تفكيرهم, و يسخّرون فِكرهم للفائدة العملية... و نحن الآن نستخدم عقولنا للتفكير المجرد أي أننا نفكّر بالأمور الافتراضية... إننا نمرّن عقولنا من خلال منطق المسائل المجردة و لذلك بالتشريح يتبين لنا أن أدمغتنا تختلف بالشكل فعلاً.»
من خلال دراسة فلين الطويلة لمعدلات الذكاء, وجد أن ارتفاعاتها في الدول المتطورة ما زالت في تقدّم. فبالرغم من انتشار وسائل الراحة التي قللت من عدد الراغبين في قضاء وقتهم في ممارسة النشاطات التي تساعد على رفع معدل الذكاء, لم تزل المعدلات في ارتفاع في دول مثل أميركا و ألمانيا و هذا ما أثار دهشة الباحث. أما عن معدلات العالم الثالث فهي آخذة بالارتفاع على نحو سريع جداً. قال فلين: «كثير من الناس قد قالوا: ’إن دول العالم الثالث أغبى من أن تصبح دولاً صناعية أبداً.‘ لكن إذا ما حافظت ارتفاعات معدلات الذكاء لديهم على هذا المستوى فإنهم سوف يلحقون بالدول المتطورة خلال القرن الجاري.»
و بدراسته لمعدلات الذكاء بين الأعراق في أميركا, وجد فلين أن العرق الأسود ما زال أقل من الأبيض بفارق 15 نقطة. يُعزى ذلك للوضع الاقتصادي الصعب الذي تواجهه عائلات العرق الأسود, مثلاً, 62% من أبنائهم تربّيهم أم وحيدة (دون أب) و غالباً ما تعاني تلك العائلات الفقرَ. لكن إذا نظرنا إلى اختبارات الذكاء للرضّع في الشهر التاسع من العمر نجدُ أن العرقين متساويان في المعدلات, و في سن الأربع سنوات يتراجع معدل ذكاء السود عن البيض بفارق أربع أو خمس نقاط و مع العمر تزداد الهوّة لتصل إلى 18 نقطة في عمر الرابعة والعشرين. يُعلّق فلين: «ذلك يشير بالطبع إلى أنه بدلاً من الجينات كتفسيرٍ لذلك يمكن أن تكون هناك أيضاً البيئةُ التي تخدعهم حول مدى توفر الفرصة لتطوير ذكائهم... خذوا هذه الإحصائية—بين عمر 18 و 24 نجد الذكور السود في السجن أكثر عدداً من أولئك منهم في التعليم الجامعي. و بالرغم من مشاكل التعليم الجامعي فإنه غالباً ما يكون أفضل لهم من السجن. لا ريب حول سبب تراجع مستوى ذكاء السود عن البيض بين عمر 18 و 24.»
أما بالنسبة للفرق في المعدلات بين الرجال و النساء يشير فلين إلى أن نتائج اختبار مُعامِل الذكاء العام عند النساء كانت أقل من الرجال في بلاد مثل أمريكا و بريطانيا قبل جيل أو اثنين و لكنهنّ اليوم يساوِين الرجال وفق بحث أجراه حول العالم, و يقول: «على سبيل المثال عدد الصبية الذين يتركون المدرسة الثانوية أكبر بكثير من عدد الفتيات, لذلك إذا أخذت مجموعة من طلاب السنة الأخيرة من المدرسة تجد فعلياً جميع الفتيات من جميع المستويات بينما لا تجد من الصبية أولئك ذوي القدرة المحدودة. هذا ما يضخّم مستوى الذكاء عند الذكور فيبدو الأمر و كأنهم يحرزون نتائج أفضل من الفتيات...»
يرى فلين أن التركيز على تحسين مستوى المعيشة هو الحل بالنسبة لتراجع المعدلات: «إن المساواة في حياة الناس أهم بكثير من مساواة أدائهم في اختبارات الذكاء. أنا مقتنع كلياً أنه إذا ما نجحنا في جعل سبل حياتهم متساوية سوف تصبح نتائج اختبارات ذكائهم متساوية أيضاً.»