تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المكان في ذاكرة الإبداع الشعرية

ثقافة
الأثنين 6-8-2012
هناء الدويري

الأعمال الإبداعية على اختلاف نصوصها ونوع فنها تكاد لاتخلو من الإشارة الصريحة أو الضمنية للمكان الذي ترك أثراً في نشأة الكاتب أو الأديب أو الشاعر، ورحلة البحث عن المكان

رحلة يتوجسها الأديب أو الكاتب في كل منتج أدبي إبداعي يثمر من خلاله كلمات ونصوص تتسع لخيال المتلقي الذي ينتقل مع الأديب في حلّة وترحاله وحتى لأبعد مما قد يبغي الأديب في نصه....‏

جماليات المكان وتجليات حضوره ووقعه في نفس المبدع مفاتيح لحقيقة مشاعر و انفعالات وأحاسيس المبدع يشكلّها نصّاً إبداعياً سواء أكان قصة أو رواية أو شعراً وحتى فناً تشكيلاً أو موسيقا... ولا تزال النصوص الإبداعية تكتنز مكاناً أو بيئة حاضرةً في تلك النصوص وتلقي بظلالها على ذاكرة المبدع الذي ما يفتأ يظهرها بأجوائها التي تركت وبقوة تأثيرها في نفسه فيستحضرها في نصه الإبداعي بمكان تنفس فيه الهواء وشرب الماء وعاش حياة غنى أو فقر سعادة أو بؤس وشقاء أو امتزج مع عناصرها الطبيعية سواء كانت صحراء قاحلة أو طبيعة غناء أو بحر وسماء وهواء.. سهول وجبال.. أو بيت ريفي يعبق برائحة الحبق أو دمشقي يعرش الياسمين وأشجار النارنج في فسحاته.. أو شوارع وأزقة تفوح منها رائحة الحب أو الجفاء.. في مدن وبلدات هجرتنا أو هجرَّنا منها، تركتنا معلقون بالشوق لها مع كل شهقة أو زفرة.. في ذكر كل تلك الأماكن بوح لأحاسيس علقت في الذاكرة من الأماكن التي يفوح منها عبق القصة أو الرواية أو الشعر أو...... إلخ.‏

ولأن المبدع ابن بيئة لم يكن لامرئ القيس في وصف تباطؤ ليله إلا من عناصر مكانية يعيش فيها فكان الجمل أقرب عنصر لحياته فيقول:‏

- فقلت له لما تمطى بصلبه‏

وأردف أعجازاً وناء بكلكل‏

- ألا أيها الليل الطويل ألا انجل‏

بصبح وما الإصباح منك بأمثل‏

في حين أن علي بن الجهم مدح الخليفة قائلاً‏

• أنت كالكلب في حفاظك للودّ‏

وكالتيس في قراع الخطوب‏

ليثير بذلك غضب المحيطين بالخليفة، لكن الخليفة كان أعمق إدراكاً ومعرفة بتأثيرات المكان فأمر بعض من حوله بأخذ الشاعر إلى جماليات المكان في عاصمة الخلافة (بغداد) بحدائقها وانهارها وقصورها وورودها وجواريها الحسان ليقف بعد عام امام الخليفة منشدا:‏

عيون المها بين الرصافة والجسر‏

جلبن الهوى من حيث أدري ولاأدري‏

حتى ان المفردات اللغوية للمبدع تتأثر ببيئته والمكان الذي يعيش فيه وتحدث في نفسه ارتباكا عاطفيا ونفسيا يعكسه النص الابداعي فترى المتنبي يقارب المكان من المكان لمنزلة المكان من الزمان فيقول عندما نزل في (شعب بوان):‏

مغاني الشعب طيبا في المغاني‏

بمنزلة المكان من الزمان‏

سطوة المكان عند نزار قباني لا تشبه سطوة أخرى فهي محفورة في صوته وجسده وذاكرته وفي كل قصيدة شعر يأتي العنوان فيها (دمشق) دمشق التي رافقته في كل زمان و مكان وتربعت عرش القصيدة النزارية وفي عنوان يقول (دمشق... نزار القباني):‏

عنوان يشبهني أكثر من كل التصاوير التي آخذت لي منذ ولادتي حتى اليوم‏

عنوان جميل، ومثير، ويختصر بثلاث كلمات‏

عنوان يجعلني محفوراً في ذاكرة الناس‏

كما رباعيات الخيام‏

المكان (دمشق) عند قباني كائن لغوي وذاكرة إبداعية وطاقة ينفجر المكان فيها مع كل قصيدة يصوّر المكان في كل مرة وليداً جديداً تجتمع عناصره مرةً في قارورة عطر و أخرى في جدران تعشش الحمائم فيها، ويزهر الرمان والتوت والمشمش والنارنج في كل جنباتها‏

دمشق رمز كل صورة جميلة رسمها للأنوثة و الأمومة والجمال والإبداع فسكنته زماناً ومكاناً وشعراً إبداعياً تهدأ روحه إذا ما استقى منه كل المفردات والصور....‏

تأمل المكان عند الشاعر محمود درويش موجع وهو دائما ضائع وتائه وحتى أنه ينأى بالمكان عن أصحابه الحقيقيين، هكذا عاش فيه المكان وهكذا يصوره مسلوبا مغتصبا حتى الموت فيه مستحيل وهي مأساة لكل الفلسطينيين، يعرج على المكان بتفاصيل شخصية وصغيرة من حياته صور يظهر المكان فيها أيقونة تضيء الذكريات والحنين يواصل حفره في قلب الشاعر وتعكس الضغوط النفسية التي يتعرض لها الشاعر ويرزح تحت وطأتها فيقول:‏

ما شأني أنا الضائع ما بين سماء وبحر‏

بفضاء لم أطيرّ فيه أسراب حمامي‏

لم أدخن فيه أحلامي‏

ولم أصطد قمر‏

وليكن ما كان‏

لا شيء يهز الروح في هذا المكان‏

قهوة تفتح شباكاً. غموض المرأة الأولى‏

تشخيص المعاني المجردة وتأكيدها وتثبيت الصفات لها يأتي من إطار عملية نفسية يهدف من خلالها الشاعر درويش إلى إثارة الانفعال في المتلقي وفي تركيب آخر يخفي ما للكلمات من إيحاءات وظلال يترك فيها المجال للقارئ ليستنبط المعاني والمقاصد وفي كل ذلك هاجس الضياع الكامل للمكان يندفع معلناً البعد و الاغتراب والنفي الذي يعيشه الشاعر بعيداً عن موطنه فلسطين....‏

المكان في الشعر وفي اللغة الشعرية يحاكي اللغة على بساطتها بصورة فنية تستعير حينا وتقفز فوق المجاز لتكسر الواقع وتترك للإيحاء مجالا، وفي حين آخر تكون صريحة تفتح أبوابا حقيقية لنشيد تردده الذاكرة الجمعية والفردية للشاعر تتخطى حدود العقل وتنبع من ذاتية وعمق الشاعر فيما عاشه من التصاق بالمكان أو فقدان لذلك المكان أوحتى خيال لأبعد من المكان الذي يعيش فيه....‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية