مما لاشك فيه أن شاعرية المكان تلقي في قلب المبدع شيئا منها, فالعلاقة بين المبدع والمكان علاقة وثيقة، علاقة تصنعها آلاف التفاصيل المختزلة في الوجدان، تسمو من كونها علاقة إنسان بمكان إلى أعلى قمم السمو والارتقاء.
وهنا نسأل ماذا يعني المكان للمبدعين ؟
وماهو المكان الذي يشعر بحنين إليه في إبداعه وحياته؟
الثورة التقت بعض المبدعين فكانت اللقاءات التالية:
الفنان التشكيلي عبد المنان شما:
(موقف فني ثابت وحياتي)
قال: أولاً الفن هو مصدر المسرة والإلهام وبواسطته يتم تحريض الذات للتعبير وبحرية مطلقة عن مكنوناتي وعما أريد، وهو يعكس حاجة داخلية ذاتية ملحة تدفعني بالبحث الدائم والمستمر وأعبر بواسطته ليس فقط عن أعماقنا ومشاعري وإنما عن البيئة المحددة التي انتمي إليها بكل جوارحي جغرافياً وتاريخياً وحضارياً.
أما المكان فأعبر من خلاله عن محبتي للحياة والجمال والطبيعة وجلالها وقدّسيتها وعن تطلعاتي وآمالي وطموحاتي بزرع الثقة والتفاؤل بالمستقبل لأبناء هذه الأرض
المكان هو موقف فني ثابت وحياتي مستمر, هو منهج العمل الذي اتّبعه, يتطور بالنسبة لي مع تطور الحياة فلاحياة عندي دون فن ولافن عندي دون حياة حيث لاوجود للإنسان إذا لم يكن هناك بيئة اجتماعية أنجبته وروّعته وتبنّته قوامها الأرض والإنسان، وفي المقابل لا وجود أصلاً للفن إذا لم يكن هناك بيئة اجتماعية معينة أساسها وقوامها أيضاً الأرض والإنسان.
الفنون كانت ولاتزال وستبقى إحدى أهم وسائل التعبير عن النشاطات التي تدور حول حياة الإنسان وبيئته في زمن معين، هذه القاعدة الأساسية في الفن التشكيلي التي لازمت الفنان منذ نشأته الاولى ورافقته عبر العصور.
من هناك كانت ولاتزال اللوحة الأصيلة تأخذ مكانتها عندي عندما تكون بصمة هويتها ومحليتها وزمان إنتاجها واضحة فكراً وفناً في آن واحد, ولافصل عندي بين المضمونين الفكري والفني فهما متواكبان في كل عمل فني جاد لا يلغي إحداهما الآخر.
الفنان الحقيقي وطني, تقدمي بطبيعته الفطرية, وإذا كان عكس ذلك فهذا يعني انه تخلى عن رسالته الفنية وعن أهدافه الوطنية والإنسانية والقومية ولم يعد فناناً جديراً بهذا اللقب.
الكاتبة انتصار سليمان:
(من المكان أستقي الكثير من المفردات)
لطالما كان المكان المنبع الثر للمتخيل في جميع أنماط الفنون الإبداعية حتى نكاد نجزم أن عنصري الزمان والمكان هما العاملان الملازمان للعديد من هذه الأعمال وخاصة المنبثقة من الواقع.
وهنا يلجأ الكاتب إلى الاستناد إلى عنصر المكان كركيزة يعتمد عليها مؤسساً على ذلك البنيان الواقعي مايطرق الفنان للمتخيل المثالي, كل ذلك لبناء عوالم موازية للعالم الواقعي ولكنه ينحو إلى الجمال والخلق والرقي أكثر.
أما بالنسبة لتجربتي وفيها أيضاً انطلق من العوالم الواقعية إلى المتخيلة وخاصة الرواية متخذة من المكان عاملاً من العوامل الهامة والمنسجمة مع رؤى وأحلام وآمال أبطال روايتي, لأنني أرى خلل في رواية ما تشدني لأمكنة ترك فيها أبطالها أثراً أو تركت تلك الأماكن بنا أثر, ربما هذا يبدو واضحاً في الأعمال الروائية والقصصية أكثر من الأعمال الشعرية بالنسبة لي, لأن الشعر أراه لصيق الوجدان الإنساني والناطق باسمه وبالتالي ماتضج به تلك الروح الشاعرة من أحاسيس ومشاعر يلتقطها الشاعر مكون منها ملاذ للبوح الضاج بالأمل والألم والترقب والانتظار والموت والحب والخوف والخلاص لذلك أرى أن كل تلك الأحاسيس لاتحتاج إلى زمان ومكان للشعور بهم .
وبذلك أقول أن قصيدتي ليست مرتبطة سوى بالنفس البشرية وما تعانيه تلك الروح من مكابدات أو على الأقل في غالبية ما كتبته من قصائد لأنني اعتبر الإنسان هو البطل الحقيقي لقصائدي أحاكيه أينما كان وربما يتقاطع مع ماأكتبه له وعنه ولي.
أما على الصعيد الشخصي والإنساني فأنا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالأماكن التي أسكنها واعبرها فهي بالمقابل بذاتها تسكنني وتتركني أمام حافة من الصور الضاجة بالحياة ولطالما أردت استعادتها إما بالكتابة أو الحنين فلم أنس يوماً مدرستي ونهر قريتي وأشجارها وزيتونها، فمن المكان أستقي الكثير من المفردات التي أوظفها بطريقة مغايرة, وعليّ أستطيع أن أقول إنني أمتلك ذاكرة بصرية أعود إليها كلما جفت ينابيع الأمل لدي لأعود إلى مناهل الحنين.