من أقوى وأعظم الروايات العربية مع تقديرنا لما قدَّمه أبانا نجيب محفوظ والخال هاني الراهب وعمِّي الطاهر وطار. فهي رواية تكتشف الرواية العربية, وتكشف عن وجهها الإنساني؛ فبطله حسن جبل إنسان يلبس سروالاً وينتعل حذاءً ويأكل ويمشي في الأسواق, ويحب ويكره ويضحك ويبكي, وهو ضعيفٌ مثلما هو قوي, والصراع في أعماقه وهو الذي سيَّر السرد عند فارس زرزور, كان كامناً, ثمَّ معلناً قاسياً وليِّناً, ودائماً نحن مع حدثَ شيءٌ ما – أشياء تحدث؛ في حركة صراعية/ديالكتيكية أعطى الرواية هذه الحياة. طبعاً حسن جبل وهو بالأساس شخصية من لحمٍ ودم في الواقع كما في التخييل, فهو عمُّ/حمي فارس زرزور ليس شخصية استثنائية, هو من عامة الشعب السوري يتماهى في سلوكه بين المعرفة والعقلنة, هو مواطن له وجود تاريخي, وانخرط في الرواية كما في الحياة في مصير جماعي, ليس على أساس حشود وقطعان أو طفيليات كما كان يراه المستعمر الفرنسي وهذا سرُّ قوَّة الرواية.
فارس زرزور في إحدى أمسياتنا في حلب يوم كان يتنقَّل بينها وبين مدينة (الطبقة) ليكتب رواية « آن له أن ينصاع» قال لي: لم أكن أعرف أنَّ حسن جبل أكبر من جبل, وأعمق من بحر, وأعلى من سماء وأنا أعيش معه حتى كتبته. كلام فارس زرزور هذا يكشف وبعفوية قوية عن( حَبَلْ) المبدع بنصه؛ بل وأخطر من ذلك أنَّ النص يعيش معه وفيه ولا يدري حتى يقبض عليه, حتى يكتبه. رغم أنَّ الكثير من محترفي لعبة الإبداع تفوتهم هكذا (صيدات) مع أنها تعيش فيهم أو معهم, ويفضلون الكتابة القيصرية؛ الكتابة العنيفة, ويتحوَّلون إلى شرطي يرى كل الناس مذنبين أو مجرمين, وفور أن يرفعهم (فلقة) يقرُّون بما لم يفعلوه, فتأتي المواليد/الروايات أو الأشعار والمسرحيات واللوحات مصابة بأكثر من مرض عصبي, أو قد تكون مصابة بتشوهات خلقية لا شفاء منها. فارس زرزور لم يعش كما كان يحلو له أن يعيش بطله حسن جبل بسبب قسوتنا عليه, وبسبب التشوهات التي أصابتنا, فعاملناه بصلفٍ وعنجهية وازدراء, مع إننا سُعدنا ببطله حسن جبل, وغمرَنا سرورٌ عظيم من أفعاله الوطنية ولا يزال. إنَّ أبطال روايات مثل هذه يمارسون علينا سحر الحياة حين نعيش معهم / نقرؤهم, فيسحبون اليأس ويزرعون الأمل, ونشعر بوجودنا ونحن نُصاب برعشة الفن سواءً كانت تدفعنا إلى الغضب أو تسلمنا للرضا, لأنَّ ما فعله فارس زرزور كان عظيماً؛ إذ أيقظ الخيال والإحساس, أخرج الثعبان المختبئ في كومة القش ودون أن يُشعل النار فيه.