كل هذا على ذمة من مهَّد لها -الكاتب الذي كان قد أحب وهو في مقتبل العمر- فتاة يانعة، وكان حبه صادقاً وعذرياً لكنه لم يكتمل، ذلك أنها تزوجت ورحلت بعيداً ولم يرها بعدها إلا لمرة واحدة وبعد تسع سنوات على مغادرتها مدينة دمشق... إذاً، تجربة الحب تلك، هي قوام الرسالة الخيال.. الخيال الذي تمادى الكاتب في تغليبه على الواقع وبما أراد منه، تقديم نصٍ أدبي جذاب وجميل، يعوِّض عن واقع متسع البشاعة والبؤس والأنانية.
أما أكثر ما أشار إليه ممهداً إلى رسالته، فهو رغبته بأن تكون صوفية الهوى تماماً كصوفية هوى «ابن عربي» الذي اختار أن ينضَّم إلى نظريته في الحب تلك التي اقتطف منها ما ورد في الجزء الثاني من «الفتوحات الملكية». وهو المقطع الذي جعل مضمون رسالته ناصع الهدف والوضوح لطالما:
«ألطف ما في الحب أن تجد عشقاً مفرطاً يعتلج في نفسك ولا تدري في من ولا يتعين لك محبوبك، وبهذه الصفة فإن النفس تجهل حالها ولا تدري بمن هامت ولا في من هامت ولا ما هيَّمها».
بيد أن الكاتب «يوسف سامي يوسف» أراد لطيف المرأة التي أحبها فغادرته، أن يبقى مهيمناً على خياله أبد الحب، أراد أن يخلده في صحو ذاكرةٍ ترفض أن تنفي عشقاً سكنها عن ظهر طهارةٍ وعفة وإلى الحد الذي جعله، عاشق أبدي التصوف، وهائماً في سرمدي التصورات التي ألهمته قول:
«إني لا يخامرني أدنى ريب في أن أنبل عشق وأعف غرام خبرته الأرض، هو ذاك الذي عشناه ذات يوم -عندما كان العالم نفسه في الريعان، فنحن لا يضارعنا أحد في هذا الشأن الجليل إلا العذريون الذين علَّموا البشرية، الطهر ونقاء السريرة والذين لقَّنوا كل الناس، درساً مؤدَّاه أن لذائذ الروح أعمق وأبهج من لذائذ الجسد، وقد طرح واحد من أولئك العذريين هذا السؤال منذ مئات السنين: «وما خير حبٍّ لا تعفُّ سرائره»؟.
إنها العزلة، عزلة الروح عن الوجود، هي التي دفعت «يوسف» للتمسك ببريق حب خطف وجوده وولَّى.. أيضاً، هي فجيعته بعالم أحاطه بالبؤس والشقاء والحرمان والظلام والحقد -كل هذا جعل الحب المتصَّور لديه، هو الوحيد القادر على إعادة تشكيله، وبعد كل يأسٍ من جدوى الواقع.
أيضاً، ولأنه العاشق المعلَّق ما بين الزمن والمحن، أبى إلا أن تكون رسالته مبللة بالتوق إلى الوطن وبلوعة فقدانه والارتماء في أحضان وطنٍ آخر هو دمشق- الوطن الذي اعتبره أمه بالتبني لطالما آوته وضمَّته إلى حنانها مانحةً إياه نبضات قلبٍ سرعان ما أنهكته النوائب تماماً كما أنهكت الغربة والحصار والمعاناة، كيان وأفكار الكاتب - الحاضر الغائب.
لكن، ورغم أن الرسالة بعنوانها ومضمونها لا تشي إلا بحبٍ أسطوري التعلق والوجد إلا أن أنفاس مفرداتها تدل على أنها موجهة إلى مدينة هي كل المدن. مدينة لايتصَّور عاشقها إلا أنها السمو والنقاء والتفرد والتفوق، وأيضاً الحب.
«إنك سيدة المثل والقيم والأخلاق الرفيعة التي ناضلت البشرية طوال آلاف السنين اتبغاء ترسيخها في الفرد وفي الحياة العامة.. لا أراك إلا حمامة بيضاء ولكنها مزوَّدة بغريزةٍ سرية لها القدرة على تخليصك من جميع محاولات الافتراس والسطو والامتهان، ولا أبالغ إذا ما زعمت بأنك تكادين تكونين رمز فداءٍ لعالمٍ حُكم عليه بالسقوط إلى الأبد».
هي إذاً - مناجاة الروح للروح. روحه هو وروح الوطن الغائب والمتخيل على أنه الحبيبة الحلم.
كيف لا؟!.. وصدى أصوات غربان الترف ما زالت تنعق فتؤكد لـ «يوسف» بأن من حرضَّ على استباحة الوطن، لم يكن سوى ضمير من رماده، ضمير شهواني والقتل ولكل ما جعل الفراق وصمة قهر وشت الرسالة بأوجاعها في غفلة عن القارئ الذي تلمّس فيها انحرافاً عن الغرام، ليتأكد له ما تأكد للكاتب الذي قاده فجأة إلى حيث يردد وإياه:
«ولا أحسبهم بشراً» أولئك الأشرار الذين صمَّموا ذلك العدوان ونفَّذوه، فأبادوا مليوناً من أهل العراق أو أكثر- إنهم يجهلون المروءة أو الإنسانية جهلاً مطبقاً فلا يشبهون غير الوحوش المفترسة الضارية التي لا تُعنى إلا بجوعها الذي لا يشبع ولا يقنع»..
إذاً، لقد تبلَّغنا الهدف من الرسالة، ولم يعد كاتبها بقادرٍ على الاستمرار في إخضاعنا إلى عوالم عشقه الخيالية، ذلك أن ما بات واضحاً تمرسه في البحث عن مذهب جذاب ومشوِّق وإنساني وبالغ الكمال.. إنه مذهبه الخاص.. المذهب الذي يتوق كل منا لإخراجه من حالة التصوُّر إلى حالة التطور ولكن كما يشاء كمال الحب للوطن لا كما يفرض حقد كل من أحاطنا بما لا نهاية له من المعاناة والمحن.
رسالة إلى سيدة: نص - المؤلف: يوسف سامي يوسف - وزارة الثقافة - الهيئة العامة السورية للكتاب 2012