تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


غيلان بشرية بتكلفة شبه مجانيّة

شؤون سياسية
الخميس 7-6-2012
عبد الرحمن غنيم

في العصور القديمة , كان الناس يتصوّرون الغيلان , وينسجون حولها الحكايا . أما في عصرنا الراهن , فإن دولاً تدّعي التحضر , احترفت صناعة الغيلان حين اكتشفت أنها سبيل أرخص وأكثر مرونة لشن الحروب .

بدأت صناعة الغيلان في أميركا اللاتينية وإفريقيا , وإن استغل فيها أوروبيون وأمريكيون , من خلال صناعة المرتزقة . ويكفي هنا أن نستذكر قصة استشهاد الزعيم الكونغولي الوطني باتريس لومومبا على أيدي مرتزقة تشومبي المجندين لصالح الولايات المتحدة .‏

ولأن كلمة المرتزقة فيها إهانة , سواء للمرتزق أو للجهة القائمة باستغلاله . ولأن الدول الامبريالية تحتاج إلى خدمات هؤلاء في كلّ حالة لا تستطيع معها أن تدفع جيوشها إلى الحرب , أو لا يتطلب الموقف شنّ الحرب التقليدية , فقد ارتأت إنشاء شركات أمنية خاصة تقوم بمثل هذه الأدوار لقاء أموال تدفع لها على طريقة تنفيذ المقاولات . وهكذا نشأت الشركات الأمنية مثل بلاك ووتر , وبات حجم بعضها حالياً أكبر من حجم جيوش عدة دول مجتمعة .‏

ومع أن الأموال التي تدفع لمثل هذه الشركات رغم كونها مرتفعة تظل أقل من كلفة استغلال الجيوش , فكر الأميركيون في وسيلة يحصلون بواسطتها على مقاتلين يقومون بالدور المطلوب منهم بأقل التكاليف . والأهم أن لا تتحمل الولايات المتحدة أدنى مسؤولية قانونية أو أدبية عن أفعالهم . وعلى خلفية هذا التفكير اهتدى المسؤولون الأميركيون إلى فكرة « الأفغان العرب « , ووجدوا في آل سعود ذلك الشريك الذي يقدم التبرير الديني على شكل فتاوى من جهة , والتغطية المالية التي أرادها الأمريكيون مناصفة في البداية , لكن آل سعود زاودوا على الأميركيين , ودفعوا أكثر من نصف التكاليف عدا عن التبرعات الشعبية التي حثوا الناس على دفعها بدعوى أن الأمر يتعلق بالجهاد .‏

ورغم أن الأموال التي دفعها الشريكان الأميركي والسعودي كانت بعشرات المليارات سنوياً , للإنفاق على ما أسموه بالجهاد ضد السوفييت في أفغانستان , إلا أن « المجاهدين» أنفسهم لم يكونوا ليحصلوا على أيّ شيء لجيوبهم أسوة بالمرتزقة أو العاملين في الشركات الأمنية , حيث كان القيام بأودهم والإنفاق على إقامتهم وتنقلهم هو كل ما يعني المشرفين عليهم . وهكذا , اكتشف الأميركيون أنهم أمام إمكانية تصنيع غول يخدمهم , دون أن يكلفهم شيئاً يذكر , لأنه إذا احتاج إلى أموال فإن هناك جهات أخرى عديدة جاهزة لدفع المطلوب نيابة عنهم . والأهم أن هذا الغول مستعد حتى لتنفيذ عمليات انتحارية حيثما طلب منه ذلك , وهو ما لا يفعله الجنود العاديون ولا المرتزقة ولا عناصر الشركات الأمنية , وذلك بعد أن جعلوه يعتقد بأن مقتله يشكل تذكرة دخول إلى الجنة !!‏

ومن رحم « الأفغان العرب » ولدت فكرة تنظيم « القاعدة » ليكون قاعدة القواعد بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية . ولم تَرَ واشنطن بأساً في أن يتظاهر تنظيم القاعدة بالانحراف وتغيير الأهداف بحيث تصير غايته المعلنة تتمثل في محاربة أميركا واليهود . فمثل هذا الإعلان كان بمثابة ستارة من الدخان تخفي الأهداف الحقيقية على الأرض . والدليل على ذلك , هو أن تنظيم القاعدة لم ينفذ حتى الآن ولو عملية واحدة ضدّ هدف صهيوني , الأمر الذي جعل البعض يقولون بوجود اتفاق بين القاعدة والموساد . وهو أمرٌ عليه في الواقع أكثر من دليل . أما عن علاقة القاعدة بأميركا , فها نحن نرى كيف قاتلت القاعدة إلى جانب الناتو في ليبيا , وكيف تقاتل لمصلحة أميركا وإسرائيل ضد سورية , وأيّ أدوار لعبتها قبل ذلك في كوسوفو والشيشان والعراق وأماكن أخرى . وفي كل الأحوال , كانت غيلان القاعدة تتنقل بين المطارات لتصل إلى أهدافها دون أن يعترض طريقها أعداؤها المفترضون من الأميركيين وشركائهم وعملائهم رغم أن مثل هذا الاعتراض أكثر من سهل وخاصة بالنسبة إلى دولة تشغل العديد من الأقمار الصناعية التجسسية عدا عن محطات الرصد الأرضية المنتشرة في أماكن عديدة من العالم . بل إن هؤلاء هم الذين يقدّمون لها كل ما تحتاج إليه من خدمات لوجستية بما في ذلك السلاح والمال .‏

إن المشكلة في تنظيم « القاعدة » أنّ مصنّعيه عرفوا كيف يأتون بأشخاص أسوياء أصلاً , فيغسلون أدمغتهم , ويحشونها بأفكار تكفيرية معينة , ويتلاعبون بمشاعرهم وأحاسيسهم , ويدرّبونهم على النحو الملائم لمهماتهم , ليتحولوا إلى روبوتات أو غيلان فتاكة , ولكن ضدّ أبناء الأمة العربية والإسلامية على قاعدة أن الاستهداف يجب أن ينصبّ على العدو القريب قبل العدو البعيد . فمحاربة أميركا وإسرائيل أمر مرجأ . وهكذا, يستطيع العدو البعيد «أميركا والصهاينة» أن يعيش في أمان طالما أن الغيلان منشغلة بمحاربة العدو القريب «العرب والمسلمين» .‏

وإذا حدث أن شذ أحد غيلان القاعدة , فاستهدف صانعيه بعمل ما , أو نوى استهدافهم, فإن ذلك يعتبر فرصة لواشنطن وطائراتها دون طيار للتدخل , وقتل هذا «الإرهابي» أو اعتقاله , أو كشفه لمن يتولى اعتقاله . ويشكل لها ذلك فرصة للادّعاء الكاذب بأنها منشغلة في محاربة الإرهاب الذي تمثله القاعدة !! .‏

إنها لعبةٌ أميركية ذكيّةٌ كما هو واضح . لكنّ هذه اللعبة توشك أن تنكشف إن لم نقل إنها قد كشفت بالفعل . فحجر القاعدة بدأ يتدحرج منذ كشف دور القاعدة في المؤامرة على سورية , وتسلل عناصرها القادمين من ليبيا وغيرها عبر الأراضي التركية واللبنانية والعراقية والأردنية , وإمدادات الأسلحة المرسلة إليهم , ودور قطر والسعودية سواءٌ في نقلهم أو تمويلهم أو تسليحهم , ليصل هذا الحجر أخيراً إلى واشنطن . وإذا كانت واشنطن الرسمية تظن بأن تصريحاتها التي تعلن فيها التنصل من المسؤولية عمّا تفعله غيلان القاعدة يمكن أن تخدع الرأي العام الأميركي والعالمي حتى النهاية , فإن هذا الظن ليس في مكانه . وأصحاب مثل هذا الظن يفترضون في الرأي العام الأميركي والعالمي الغباء في إدراك أن غيلان القاعدة ما كانت لتفعل ما تفعل لولا أن أميركا وشركاءها يقفون من ورائها . فقد بات واضحاً الآن أن القاعدة غول صنعته واشنطن وتقوم باستثماره بالتعاون مع شركائها من الأعراب والأغراب . ومن شأن اكتشاف هذه الحقيقة أن تطرح داخل الولايات المتحدة نفسها مشاكل جديّة , حيث من المتوقع أن تتزايد الأصوات المطالبة بالتحقيق حول علاقة الإدارة الأميركية بالقاعدة سواء في عهد ولاية بوش الابن أو في عهد باراك أوباما . فإذا كانت القاعدة تمثل غيلاناً بشرية بتكاليف شبه مجانية بالنسبة للإدارة الأميركية وشركائها , إلا أن الدور الذي قامت به وتقوم به حتى الآن , والضحايا الذين ساهمت القاعدة في سقوطهم بما في ذلك ضحايا برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك , كل هذه أمور تتطلب محاسبة مصنّعي هذه الغيلان ومستثمريها باعتبارهم يتحملون المسؤولية عن الجرائم التي اقترفتها أو تتابع اقترافها ضد البشر .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية