هذا الإنسان الذي بات سلعة من السهل أن تعثر عليها اليوم في سوق التعامل بين الناس ؛ بنى علاقته مع الآخرين على أساس المنفعة فهي المادة الخام التي تراءى له في المنام أنها تصلح للنهوض بصرحٍ ممرّد شامخ ، وهي مادة شاملة تغنيه عن البحث عن المواد الأخرى ، والمشكلة أنّ حدود المنام واليقظة تداخلتْ لديه فيما بينها ، بل إنها تخطّتْ مرحلة الذوبان والانصهار فأصبحتْ كلاً واحداً وهو بذلك التماهي من الراضين الفرحين .!
أمّا صفات ذلك الإنسان فحدّثْ ولا حرج : تعرض له حاجة لديك فيلاحقك حيثما اتّجهتْ ويمارس عليك ضغطاً شديداً بإلحاحه لتقضي له حاجته مطبّقاً المثل القائل : ((السيّد التصقْ به غلب السيّد لا أعطي )) ، وخلال عملية الملاحقة واللصوق يقسم لك الأيمان المغلّظة أنه لن ينسى فضلك عليه مادامت الأنفاس تتردّد في صدره ، وتقع في الخطأ فتصدّقه ، حتّى إذا قضيتْ حاجته وصادف أن التقاك في اليوم التالي وجد رفـْع يده لإلقاء التحيّة ولو عن بعدٍ عمليّة مرهقة مكلفة فتراه يؤثر عدم رفع اليد ، وإذا بادرتَه بالسلام عليه ردّ بطريقة تغلي فتوراً ثمّ ذهب إلى أهله يتمطّى .
تتغاضى عن فعلته الشنعاء وتحاول التماس العذر له ، ثمّ يمرّ الوقت فتعرض له حاجة أخرى لديك ، فيأتيك حاملاً على ظهره أثقالاً ينوء بها هذا الظهر ، هي أكياس جديدة من النفاق والمديح الكاذب الممجوج والمبالغة المنفّرة ، علماً أنه يعلم علم اليقين أنّك مازلتَ على استعدادٍ لتقديم يد العون له دون أن يجد نفسه مضطرّاً لسفح ما تبقّى من ماء وجهه ؛ ممارساً طريقة مؤسفة في التودّد والتملّق .
والويلُ ثمّ الويلُ إذا لم تقمْ بإنجاز ما طلبه منك ، أمّا عجزك عن هذا الإنجاز فجريرة بل جريمة لا تغتفَر ولا تسقط بالتقادم .
عجزك لا تقاعسك في مساعدته ذنبٌ يكفل انتقاله إلى المعسكر المضادّ كلمحٍ البصر ، وسرعان ما تراه وقد هيّأ الخيام الضخمة لأنه ينوي الإقامة في هذا المعسكر أمداً طويلاً .
هو إنسان قد تجد نفسك مضطرّاً للتعامل معه مقتدياً بقول الشاعر:
ووضعُ النّدى في موضعِ السيف بالعُلى
مضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضعِ النّدى
وتهمّ بتطبيق هذا القول لولا أن رأيتَ العاطفة الإنسانيّة التي تأمرك بالإحسان حتّى إلى من أساء إليك :
أحسنْ إلى الناس تستعبدْ قلوبَهمُ فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
صرفتك هذه العاطفة النبيلة عن الردّ الذي قد يكون متعطّشاً للثأر ، وعدتَ إلى يقينك القديم القائل إن الثأر مؤشّر خطيرٌ على الضعف ولو حرص على الظهور بمظهر القوّة.
دارَ هذا الحديث بين قلبِ يتحاشى القسوة ويخشى أن يكون فظّاً ، ونفسٍ أمّارةٍ بالسوء تحاول تبرير الخطأ إذا وقعتْ عرِضاً فيه .
أصختُ السمع ، ولعلّي كنتُ مشدوداً إلى الحوار ، لكنّي لم أستسغْ تبرير النفس ما قد ترتكبه من أخطاء ، ووجدتُ نفسي مندفعاً لا شعوريّاً إلى القلب لأقف دون تردّدٍ إلى جانبه معلناً موافقتي على كلّ خطوة يخطوها ، وعلى كلّ قرار يتّخذه مادام القرار نابعاً من حرصه على رؤية ينبوع الخير منسرباً في الاتجاهات كلّها.
لمستُ القلبَ فوجدتُه مطمئنّاً لسريرتي ، وسرّني استقبالي من قبَله بحفاوة بالغة : وقبل أن أبرح المكان طلب منّي أن أتمثّل هذا البيتَ وأن أعمل به على الدوام :
كمّتْ فمي ذكرى الجميلِ وزحزحتْ
جبلَ الإساءةِ ذرّةُ الإحسانِ
وقبل ذلك علّمني ولن أنسى :
ازرعْ جميلاً ولو في غيرِ موضعهِ
يبقى الجميلُ جميلاً حيثما زرِعا