والتزام، وغايةٍ لا تُحدّ، وهدفٍ غير مرصود، إلى خلاصاتٍ في الرّوح، وطوافٍ في الفضاءات، ومحطاتٍ هناك مَن التجأ إليها، وأطال البقاء، وفينا من تخلّف عنها، برغبة أو غفلة، أو إنه ينتظر؛ أم هي الأقدار تفعل ما تشاء!!
تأخّرتُ في الرّثاء؛ ليس تهرّباً من واجبٍ لا أستسيغه، ولا تفادياً لمجاملة قد تظهرمن انفعال مبالَغٍ فيه، وتعابيرَ تسوق الكلماتِ قسراً إلى معانٍ فضفاضة، وخيالات تشطح بعيداً في أذهان المؤبِّنين، فيتوهون بحثاً عنك؛
ولا لقلّةٍ في العاطفة، وجدبٍ في المشاعر؛ على الرّغم من بُعد هذا الاحتمال، معما تستدرّه المواقف المشابهة، وهي كثيرة،وما تستدعيه المشاهد الأكثر إيلاماً وقساوة.. وهي تتكرّر!
تردّدتُ في الرّثاء؛ لا لأنّك لا تستحقّ؛ فأنت قريب، ولا أقول الأقرب؛ وعزيز، ولا أجازف بأنّك الأعزّ؛ لأنّ معيار القرب والبعد لا يستقرّ، وشطط المبالغة يُحرِج ويُربِك، وغيابك مُفجِع، لكنّ الأكثر إيلاماً مَرَّ، أو يكاد؛ وأخاف أن أفكّر أنّه -ربّما- لم يمرّ كلُّه بعد!
ولا شكّ في أنّ في فقدك خسارةً مهمّة، لكنّها قد لا تكون الأهمّ، مع هول الخسارات، وهوّة الضّياعات..
تأخرتُ في الرّثاء؛ ليس لأنّني كنت مشغولاً برثاء آخر وآخر، «والضّحايا اليومَ كُثرٌ»، وكثر مَنْ همْ مشغولون بذلك؛ أمّا أنا، فربّما أحسستُ أنّ عليّ عملاً آخرأكثر جدوى! لا استهانة بفعل الرّثاء؛ فتقدير الموت ضروريّ، احتراماً للحياة؛ فكيف هي الحال في من كان موته من أجل حياة الآخرين، من أجل الحياة نفسها؟! الحياة الكريمة الّتي تستحقّ أنْ تُعاش، وأنْ تُحتَرَمَ سِنِيُّها القصيرةُفيعمرِ المرء، الفريدةُ في عبوره، الضائعةُ في أقدار الكائناتِ، المستهلِكَةِ أعمارَهم وأجسادَهم، إلّا من سُنّتْ سِيَرُهُم، وطاب ذِكْرُهم، ولو إلى حين!
تأخّرتُ في الرّثاء؛ فكلّما عزمتُ على كتابةِ رثاء، ومشاركةٍ في تأبين، يأتي خبر آخر؛ ولستُ مِمّنْ يُضيفون اسماً على أسماء بلا تمييز، أو ممّن يبدّلون الاسم في النّص ذاته، أو يَستخدمون الألقابَ عينها، والمبالغاتِ والأوصافَ التي لا تُميِّز بين القادرين الأرضيّين، والملائكةِ المقرّبين للمُرتَثين، على الرّغم من أنّ لكثير من الضّحايا صفاتٍ وأوضاعاً وظروفاً تتشابه، وتستحقّ المدائح والتّقريظات، أكثر ممّا يُقَدَّم لبعض الأحياء بلا وجه حقّ.
لكنّ هناك فروقاً لا شكّ فيها، بين من ضحّى بنفسه مقداماً،رابط الجأش، ثابت القلب، لامبالياً بالخطر المحدق، وبين من قعد ينتظره، وهو قادر على فعل شيء لحماية أهله، أو نفسه على الأقلّ، ولم يفعل!
هناك فرقٌ بين منْ قضى في حقله، أو مدرسته، أو معمله، أو دكّانه.. أو في الطريق إلى مكان العمل، أومنه إلى موئل مستقرّ أوطارئ، وبين من طالته المَنِيّةُ وهو متحمّس لعدِّ الضّحايا، والرّثاء المُفتَعَل، أو من تحجّج بخطورة ممكنة، وسوّغ غيابه بانعدام الأمن، وأمّن لهروبه القصير أوالمتطاول المتباعدِ وثائقَ وأختاماً.
هناك فرق بين من تلكّأ عن واجب قريب أو بعيد، ومن تخفّى أو أُخفِي حتّى تمرّ الدعوات، وتباهى بإشارة النّصر حين يمرّ موكب ضحيّة، ولم يقصّر في نفخ النار، أو ذرّ الرماد في المشهد، كما في العيون.
هناك فرق بين من اجتهد متكلّماً أو مندفعاً، وأبدى موقفاً، وأعلن رأياً، وتعرّض بسبب ذلك لمكروه، وبين من يتلهّى بالعاديّات، ويتسلّى بالمستهلَكات، ويتظاهر بالواجبات..
لعلّه يَنتظر أمراً أو بارقة أو خطوة مهمّةً.. ليحدّد وُجهتَهُ حسب الرّياح والرّماح..
الموت عدل، والمساواة في معناه كفر؛ الموت حقّ، والقتل، والمشاركة في القتل، والتحريض عليه باطل.
الاعتداء جريمة، والقتل جرائر، وَرَدُّ الفعلِ والظّلمِ والعدوانِ واجبٌ وحقٌّ وعدل. الموتُ خلاصٌ يُطلَبُ مِنْ أجل حياةِ الآخرين، لا منْ أجل المزيد من سفك الدّماء وإزهاق الأرواح.
تأخرتُ في الرّثاء، فهناك عمل مطلوب، وأهداف مُرتَجاة، وأمانٍ وآمالٌ وأحلام، وما يزال في البال والرّؤيا والإمكانيّة والوعي قَدْرٌ، يمكن الاستفادة منه توفيراً للدّماء، وتعزيزاً للمناعة، ودرءاً للفتنة، وهو أهمّ من كثير من طقوس الرّثاء، وأكثر إلحاحاً في كثير من الحالات، ولمن يستطيع، حتّى من إكرام الميت!.