وأي حلول لم تكن لتخطر على بال البشر في عصور مضت وانقضت.
هكذا تتصاعد بنا الحضارة في مسارها السريع والمتسارع وكأنه الذرة الفائقة التي تدور في مساراتها الخارقة. نظرة شاملة وسريعة نلقيها على ما وصل اليه الإنسان على الطرف الآخر من العالم يدفعنا الى السؤال: أين نقف نحن في دول العالم الثالث ـ كما يسمونها ـ من كل هذا؟ سؤال مشروع يحق لأي أحد منا أن يسأله.. والجواب متشعب متفرع كجذور رهيفة تتغلغل في التراب.. أو كشبكة عنكبوت كل خيط فيها يتصل بالآخر.
لا أدعي أنني أملك جواباً أو أنني أفترض حلولاً.. لكن السؤال يغزوني ويدفعني لأن أفتح عيني وأرى.. وماذا أرى؟ بل أجد أننا في هذا الجزء من العالم نقف موقف المتفرج على ما يقوم به أناس على الطرف الآخر.. لا بل أكثر من هذا إذ نذهب بعيداً في أن نكون مستهلكين لا منتجين.. في زمن الاستهلاك الذي يمتصنا جميعاً حتى العروق منا.. نلهث وراء الأضواء كما الفراشات لتحترق ونحن نركب الطائرات، والسيارات، وكأن الحضارة تتلخص فقط بأساليب معاصرة للعيش.. قشرة رقيقة من البلاستيك نغلف بها أنفسنا لنبدو في إطار عصري ليس إلا.
وماذا تنفع الحضارة ما لم تدخل الى سلوك الإنسان في كل مكان؟.. أم أن الأمر يختصر بثوب مبتكر، وبناء طابقي يناطج السحاب، وقطع الصلة بالماضي بحجة أنه لم يعد يتناسب مع معطيات الحاضر؟.. ولا فرق بين منتج ومستهلك في هذه الحال.. وكل ما يهم هو كيف يتم استخدام ما هو متاح من وسائل حضارية معاصرة.
إلا أن البشر يتصارعون ويتنازعون.. وربما الى شريعة الغاب يعودون في القتل والتدمير.. يأكل القوي منهم الضعيف وبعيداً عن قيم الإنسانية.. كما لو أن حضارة المنتج والمستهلك معاً ما مست منا إلا السطح فما عادت قادرة على أن تتغلغل فينا في تعبير صحيح عنها. وحتى على مستوى المنتَج الحضاري فإن حروباً إلكترونية رقمية باتت تظهر على ساحات الصراع.. حروب جديدة نتيجة تطور العصر ومعطياته باتت تأخذ حيزها في تلك الفضاءات.. والعقود القادمة تبشر بحروب ليست ككل الحروب.. أناسها من معدن بلا قلب.. وجنودها من رجال آليين.. وكأن غاية الحضارة هي هذا الهدف غير المعلن في السيطرة على شعوب بأسرها واستلاب ثرواتها وأقواتها.
ماذا سنقول عن حضارة اليوم وزمن الاستهلاك أكثر من أنه يستهلك انسانية الإنسان قبل أن يستهلك ما يتحصل عليه الفرد منا.. بل هل غدونا لا نجيد سوى برمجة عقولنا على ثقافة جديدة تستنزفنا وتأخذ منا أكثر مما تعطينا؟ ثقافة رقمية تحولنا الى مجرد أرقام لا فرق في أن نزيد أو ننقص.
إنها قشرة من البلاستيك حضارتهم هذه التي يتشبثون بها.. بينما نحن في وطننا العربي رغم أننا نقع تحت تصنيف العالم الثالث فإننا نملك تراثاً باذخاً من قيم، ومن مُثل، ومن علم كان ومازال حجر أساس لما وصل اليه البشر من إبداع. فهل سنكون أكثر حضارة إذا ما أدرنا ظهورنا الى هذا التراث لنقف مبهورين بما يأتي الينا من الضفة المقابلة لشواطئنا.. ونرتضي بالتالي لأنفسنا بأن نكون فقط في موقف المتفرج المستهلك؟
ليتنا نفتح عين القلب ونافذة الروح لكي نأخذ الجوهر ونرمي بالقشور مما تحمله لنا سفن الحضارة.. لننهض بمجتمعاتنا العربية من جديد.. وهي لاشك قادرة على ذلك.