وكثيراً ما يشكو الأهل من انصراف أولادهم بكافة فئاتهم العمرية إلى التلفزيون وألعاب الفيديو والانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي فيه ومواقع الألعاب. فهل ثمة مبرر لقلق الأهل من هذا الموضوع، وكيف يمكننا أن نحد من انصرافهم المفرط إليها دون أن ندخلهم في صراع مع رغبتهم في أن يتماشوا وعصرهم؟ هذا ما يشرحه لنا سيرج تيسيرون الطبيب والمحلل النفسي والاختصاصي في التكنولوجيا الحديثة.
للأهل كامل الحق في أن يقلقوا، ولكن ليس للسبب الذي يعتقدونه. لأن الجلوس الطويل لأبنائهم أمام الشاشات بكل أشكالها ليس مؤشر اضطرابات نفسية لديهم، إنما يمكن أن يكون على حساب نشاطات أخرى ينبغي ألا يهملها الابن ولهذا من واجبهم أن ينظموا ويضبطوا لهم أوقاتهم. نظراً لأن الفرد في المراحل الأولى من شبابه والمراهقة بشكل خاص لا يكون قد اكتسب بعد القدرة على تنظيم اندفاعاته ورغباته، ويعاني صعوبة في اتباع قرارات يعتبرها معقولة ومنطقية جداً حتى بالنسبة له. ولهذا يجب أن يحرص الأهل على ألا تشغل وسائل التكنولوجيا الحديثة سوى حيز من أوقات فراغهم. ولكن تأطيرها في زمن محدد غير كاف على الإطلاق لأن لتلك التكنولوجيا جوانبها الايجابية والأهل في مصلحتهم الاهتمام بها. وعندما يبدأ الأهل بالاهتمام بما يشغل أبناءهم في هذه المسائل ويتابعوها يمكنهم حينها تأطيرها بحنكة وفعالية. وكلا الأمرين متابعة الأبناء وتأطير الزمن لهم يرتبطان ببعضهما ولا غنى عن بعضهما. ولا شك أنه طرأت تغييرات لدى الشبان مع بروز تلك التكنولوجيا، تكرست في العلاقة مع المكان والزمان وبناء الهوية بدلاً من الاهتمام الذي ينبغي أن يولوه للأنشطة التشاركية والفردية. وشهدنا قديماً ثورة مماثلة رافقت ابتكارات أخرى رئيسية، مثل اكتشاف الكتابة وتوزيع الكتب من خلال الطباعة. وتلك الوسائل التكنولوجية الحديثة ليست أفضل ولا أسوأ من تلك التي اعتدنا عليها تقليدياً. وحيث حلت ثقافة الشاشات محل ثقافة الكتاب، فقد ظلت النسبة المئوية لمتابعيها الذين يعانون من اضطرابات عقلية ثابتة أمام هذا التغيير. ولا يوافق الدكتور تيسيرين على الرأي الذي يحذر من الإدمان على الكمبيوتر والانترنت لدى الشبان، وحجته أن هذا العالم في تطور مستمر، كما وأن التواصل والانفتاح على الانترنت يمنح قوة وزخماً للتنشئة الاجتماعية. وحيث أن الإنسان بطبعه يحب تجاذب أطراف الحديث مع الآخرين، أي بشكل أدق الثرثرة، فإننا لا يمكن أن نقول إن ذلك يعني الإدمان على الثرثرة، وهذا ما يقوم به معظم الشبان ولا سيما من خلال مواقع التواصل أو ألعاب الكمبيوتر. المشكلة الوحيدة هي استغراق الشباب، ولا سيما أولئك الذين في مقتبل عمرهم بألعاب الكمبيوتر بهدف اللعب فقط، وبالتالي ينبغي على الأهل أن يطرحوا على أبنائهم دوماً سؤالاً " هل تلعب بمفردك أم مع آخرين؟ " إن كان يلعب بمفرده فهذا مؤشر قلق، والشيء المطمئن هو في حال كان يلعب مع أقرانه. وطبيعي أن الشاب لا يكون بمفرده في شبكات التواصل الاجتماعي، ولكن الشباب الواعي يختلف عن الشباب في مقتبل العمر أو ما نطلق عليهم اسم ( المراهقون ) فالشبان الواعون يبحثون في تلك الشبكات عن أشخاص في عمرهم ويعرفونهم سابقاً، بينما الأصغر عمراً فإنهم يبحثون عن أشخاص مجهولين، رغبة في الدخول في مغامرة.
إن الإنسان في صغره يبحث عن نماذج قدوة ليعرف من خلالها كيف يصبح كبيراً، وكان يجد في التلفزيون والسينما هذه النماذج، وبالمثل الآن مع الانترنت، مع اختلاف بسيط هو أنهم مع عالم الانترنت ليسوا على احتكاك مع نماذجهم فحسب وإنما أيضاً على احتكاك مع مجتمع أصدقائهم وأقرانهم. ويبقى من الضروري على الأهل أن يظهروا قدرة على طرح نماذج وقدوات واضحة وموثوقة. وحث أبنائهم على كل ما من شأنه أن ينمي الروح الاجتماعية لديهم من خلال الشاشة وكل ما يحفزهم على طرح تساؤلات وايجاد حلول لمسائل تعترضهم فجأة وكذلك تنمية عقلية التطور لديهم. وتوخي إبعادهم عن الأنشطة المكررة والنمطية والانفرادية، فهي مثيرة للقلق.
وللمدرسة دور أساسي تلعبه من أجل دخول آمن ومضمون لشبابنا إلى عالم التكنولوجيا الحديثة. ويأتي دورها في المقدمة في شرح القواعد الأساسية الثلاث للإنترنت إلى الطلاب وهي: - كل ما تضعه على الشبكة العنكبوتية هو ملك عام - كل ما تضعه يبقى للأبد – جميع ما تجده عليها مشكوك فيه. لأنه يستحيل تمييز الصور الحقيقية الواقعية من الصور المزيفة. كما وتشرح لهم عن طريق معلمين ملمين جيداً بتلك التكنولوجيا ما الذي يختبئ وراء مواقع التواصل الاجتماعي من أجل أن ننأى بالطلاب عن مخاطرها وألا يقعوا في فخها.
إن أدمغة الأجيال الجديدة، أو مستهلكي التكنولوجيا الحديثة لا تعمل كما أدمغة الأجيال السابقة، حيث تبرز لديهم الرغبة في الحصول على رد سريع والانتقال السريع من موضوع إلى آخر علاوة على صعوبات التركيز، كل ذلك جزء من أساليب جديدة للعمل، وهي لا تتناسب مع أنظمة التعليم التقليدية. ولكن المشكلة تكمن في أنه ليس ثمة ما يبرهن لنا أنها لن تكون مناسبة للعمل الذي ينتظرنا في غضون 10 أو 20 عاماً. ونحن نرى موظفين شباباً عاجزين عن التركيز في مهمة واحدة، بحيث يتنقلون من مهمة إلى أخرى باستمرار لحلها بموازاة بعضها البعض لا بالتسلسل. الأمر الذي يثير انزعاج الأجيال الأقدم منهم، وينتهي أولئك الشباب إلى انجاز عملهم بنفس سوية أسلافهم، حتى وإن كانت الطرق المتبعة لا تتوافق مع المنطق الذي يقول بحل عدة مسائل من طبيعة مختلفة بالتتابع. وهذا نوع من التناقض الذي علينا التآلف معه.
عن لوموند