ويومها.. كانت والدتي تفرض عليّ أن أستيقظ في الصباح الباكر، كي أسرّح طيور الحبش الصغيرة إلى الأرض المجاورة لمنزلنا الكهل, بعد أن زرفت السماء دموعها الخيّرة وأنبتت الأرض صغار العشب والأزهار.
ويومها.. كانت الدنيا لا تتسع لي إذا ما كبرتْ زغاليل الحمام، وقدِم إلى منزلنا أحد الأقارب من حمص.. حيث فارقت والدتي أهلها يوم تزوجت والدي.
ويومها.. كنا ننتظر أن تلد البقرة، كي نستمتع بما كانت أمي تسميه /الشمندور/ ولمن لا يعرفه فهو أول الحليب بعد الولادة. ولا أنسى أنها كانت تجود علينا بالقليل من السكر من فرحها بالمولود الجديد!
ويومها.. كنت أتمنى أن يكبر أخي بصورة ٍ مفاجئة، كي لا يجبرني والدي على أن أرتدي ملابسه التي لم تتغلغل فيها أشواك الزعرور وأغصان السنديان الفتي على طول الطريق المتعرج إلى المدرسة!
ويومها.. كانت أول فكرة لعينة تقتحم صفاء عقلي وحسن سلوكي, فذاك الواقع الصعب الذي عشته كان يكبلني بكثيرٍ من الأفكار والتخيلات والسخط على والدي الذي لم يكن يبخل علينا بما يملك! ولكن.. ربما أن عدم إدراك الأطفال لصعوبات الحياة هي ما كانت تحاصرني بذلك الشعور!
ويومها.. قلت لصديقي في الصف الثالث الابتدائي: لقد وعدني والدي أن يعطيني في الغد مكافأةً لأنني حفظت جدول الضرب.. وسوف أشتري حبلا ًمن المطعّم الملوّن ولا بدّ أن أقوم بتوزيعه على الأصدقاء في الصف. هكذا قررتُ وأنا في طريق العودة إلى البيت. وأتذكر أن صديقي الذي كان يشتري يوميا ً من الحانوت المجاور للمدرسة قال لي بلهجة اللامبالي: أما أنا فوالدي يدفع لي كل يوم، على الرغم من أنني لم أحفظ جدول الضرب!
كان صديقي يتقن إغاظة الطلاب دون أن أجد سبباً لذلك؟! وقبل أن نفترق قال بصوت ٍ قوي: سأخبر الأولاد بأننا سنتناول للمرّة الأولى خلال ثلاث سنوات /المطعّم / من المصروف الذي سيدفعه لك والدك لأنك حفظت جدول الضرب!
افترقنا قرب نبع الماء، ولا أعلم لماذا تمنيت لو أنني لم أطلعه على ذلك, فربما لن تصل خطتي إلى خواتمها كما أتمنى.
كان منزلنا الطيني مؤلفا ً من ثلاثة أقسام، وكانت والدتي تملك في /السيباط/ المخصص لها ولوالدي صندوقا ً خشبياً ألبسته السنين الطويلة لونا ً أسود. كانت تضع فيه الثياب وعلى جانبه الأيمن من الداخل، كان هناك درج ٌ واسعٌ تضع فيه البيض البلدي. كانت تبيع قسماً ًمنه وتشتري بثمنه القليل من الصابون!
ولأنني لم أصل إلى المكان الذي يضع فيه والدي الليرات القليلة وأجزاءها حتى مستوى العشرة قروش.. تلك التي كان صديقي يقلبها يومياً ًعلى المقعد أمام ناظري, فقد قررتُ أن أخطف بيضة ً من الصندوق لأشتري بها ما وعدت ُ صديقي به! في صباح اليوم الثاني تظاهرت ُ بأن ألماً ً قد أصاب معدتي، فقالت والدتي: يجب أن تتناول البطاطا المسلوقة بدلا ًمن/ الزعتر والشاي/ وصرختُ على الفور: لا .. لا أريد أن أتناول البطاطا الآن.. آلامي تبدأ في المدرسة في الحصة الأخيرة ولا أعلم لماذا أحسّ بها الآن.. يجب أن أحصل على عشرة قروش أو بيضة لأشتري بثمنها بعض أقراص (المعمول أو المطعّم). رفضت ذلك وأعطتني كسرة خبزٍ كي أُسكِت آلامي بها إذا ما هجمتْ عليّ في المدرسة!
يومها.. غافلت ُ والدتي، وأخذتُ من الصندوق بيضة ً وخبأتها خارج المنزل، كنت ُ حريصا ً ألا يراني أخي الذي كان يحبّ النميمة لوالدتي, ويتسبب لي بتلك الصفعات التي أتذكرها حتى الآن!
انتظرته حتى ابتعد عن المنزل, وانسليت ُإلى الزاروب كأفعى أخرجت ُ البيضة من مخبئها ووضعتها في جيب المريول المدرسي, وحملت ُ كتبي قاصداً المدرسة. كانت سعادتي لا توصف وأنا أسرع كي أشتري قبل الدخول إلى المدرسة. وصلت ُ متأخراً ما اضطرني أن أُبقي البيضة في جيبي حتى انتهاء الحصة الأولى. دخل المعلم إلى الصف، وما كاد يبدأ الدرس حتى اجتاحت القاعة رائحة ٌ كريهة جعلته يتجوّل بين المقاعد لمعرفة مصدرها. حاصر مقعدي وبدأت ُ أرتجف ُ خوفا ً من اكتشاف البيضة في جيبي. اقترب أكثر وأكثر.. طلب من صديقي الذي أغلق أنفه أن ينهض, ويبتعد عن مكان جلوسه ليقترّب مني أكثر. وهنا بدأتْ تيارات الدم تفضح الخوف على وجهي.. وبدأت ُ أرتجفُ.. عندها، سألني عمّا أخفيه في جيبي.
تمنّعتُ في البداية, لكن ما أن مدّ يده حتى اكتشف أن الرائحة /الزنخة/ مصدرها البيضة المكسورة في جيب المريول. أرسلني إلى المدير الذي قام بدوره, وأرسلني إلى البيت. استهجنتْ والدتي عودتي المبكرة، كنت أبكي فاقتربتْ مني وضمّتني إلى صدرها, وفجأة تغيّرتْ ملامحها وبدأتْ تستنشق الهواء بسرعة.. ماذا هناك؟ ما هذه الرائحة؟!
اعترفتُ لها بالحقيقة الكاملة.
(لن أخبركم أن والدتي عاقبتني على ذلك) ومنذ تلك الحادثة، أصبحتْ تخيط لي المراويل المدرسيّة دون جيوب!