لعدة قرون خلت دون أي تحريك في هذا الراكد، وهو أيضاً استكانة للنقل بدلاً من تفعيل العقل، ولهذا اسمحي لي أن أخرق الموافقة بالإجماع الذي لوحت لنا به في تحرشك الأدبي.
مشرفة صفحة الرسم بالكلمات السيدة سوزان ابراهيم وفي مقالتها التي حملت عنواناً مثيراً للقراءة (تحرش أدبي) أشارت إلى ضرورة الاختصاص مدعمة رأيها بالأمثلة.
الكل يشتكي ويتذمر ويعلن سخطه من هذا الكم الهائل من الرداءات المنسوبة إلى الأدب، والتي تقتحم الصحف والمطبوعات والمنابر.. فهل ما يحصل هو سمة يتميز بها عصرنا بالتحديد؟ وإذا كنا حتى الآن نردد قصائد المتنبي والحمداني إضافة إلى قصائد شعراء آخرين في عصور مختلفة فهل هذا يعني أنه لم يكن في تلك العصور سوى هؤلاء الذين صمدت قصائدهم هذه الأزمان المديدة؟ أو لم يكن في زمن المتنبي وأبي صخر الهذلي وأبي تمام وابن الملوح وابن أبي سلمى وذي الرمة والشنفري وغيرهم، أو لم يكن لهؤلاء معاصرون ينظمون الشعر وباقي الأصناف الأدبية مما لا يقل رداءة عما نشكو منه في أيامنا هذه من «غلاظات»؟ ولو أن تلك العصور حفلت بالصحف والانترنت والأرشفة المحفوظة إلى الأبد، لاكتشفنا أنه لا يوجد زمن أو عصر إلا وينوء بالأشخاص الذين يرتكبون الموبقات من الأدب إضافة إلى مؤلفات أخرى ليست حكراً على عصرنا هذا الذي نعيش وإن سهولة تداول تلك الأعمال في أيامنا بسبب وسائل الإعلام ووسائل النشر المتاحة هي التي جعلت لكتابنا ولإنتاجهم هذا الضجيج فما هو الحل وإن كان يوجد حل لهذا الذي يساهم في تخريب الذائقة الأدبية والفنية لدى القارئ أو المتلقي، وهل يكمن الحل في الاقتراح الذي قدمته مشرفة صفحة الرسم بالكلمات المتعلق بإحداث كليات تخصصية؟
اسمحوا لي أيها السادة باستعراض بعض الأسماء التي لا تخفى إبداعاتها الأدبية والفنية على أي من المتابعين على مر العصور، وبالتأكيد فإن أحداً لا يستطيع الإلمام بجميع أو ذكر الجميع، وذكر البعض قد يفي بالغرض.
الشاعر نزار قباني تخرج من كلية الحقوق، الشاعر عبد القادر الحصني درس في كلية الهندسة، الموسيقي الروسي بوردين كان طبيباً، وكذلك تشيخوف هو أيضاً تخرج من كلية الطب، حنا مينة مارس عدداً من المهن منها الحلاقة، عاصي الرحباني كان دركياً على ذمة أخيه الياس الرحباني فان غوغ لم يتلق أي درس خصوصي في الفن التشكيلي، كذلك غوغان وكلود مونيه ترك المدرسة مطلقاً عبارته الشهيرة - ليس من الخير أن نبلي سراويلنا على مقاعد الدرس- كما أنه قد أنهى مشروعه الشعري في العشرين من عمره محمد الماغوط وزكريا تامر لم يصل أحدهما إلى شهادة البكالوريا وكذلك المنفلوطي والعقاد وسيد درويش.
موتسارت عزف أمام الامبراطور في فيينا وله من العمر سبع سنوات وفي سن التاسعة ألف سوناتا موسيقية، وفي الرابعة عشرة احتفل به احتفالاً شيقاً في روما.
هل نستطيع تصنيف المعري في عداد الأميين لأنه لم يقرأ أو يخط بيده حرفاً واحداً بسبب فقدانه البصر؟ وتاريخ الإبداع يكتظ بهؤلاء المبدعين الذي لا تستطيع كلية أو معهد ادعاء الفضل عليهم.
الكل يتساءل: ما الحل بما فيهم أولئك الذين يشوهون الأدب والفنون وبعضهم يرى نفسه فارس الفرسان وسيد الحروف والألوان.
لعل أحداً لا يمتلك حلاً لهذا الأمر وكما أسلفت فإن سائر العصور قد حفلت بركام لا حصر له من المتطفلين على موائد الأدب وسائر الفنون من عديمي الموهبة غير أن عصرنا الذي يحفل بكثرة وانتشار وسائل الإعلام المطبوعة وتعددها قد فاقم المشكلة فالمطابع أشبه بغول يفتح فاه ليلتهم الجيد والرديء وأيضاً مواقع الانترنت التي هي بحاجة إلى ما يرفد صفحاتها غير أنه يمكن أن يكون هناك ما يخفف شيئاً من ركام تلك الرداءات الأدبية وهو الاعتماد على الذائقة الأدبية لمشرفي تلك الصفحات في اعتماد القسوة بغربلة ما يصل إليهم من نصوص.
أما اقتراح إحداث كلية للإبداع الفني فهذا ما لا يمكن له بالمطلق إعطاء النتائج المرجوة وقد تمت تجربة مشابهة في الاتحاد السوفييتي لم يتح لها أن نصنع مبدعاً واحداً، فالإبداع لا يمكن تلقينه أو تصنيعه والكلية هي آخر من يستطيع منح تلك الشهادة فالكليات والمعاهد قد تصنع حرفيين ومدرسين وحاملي معلومات لكنها لا تخلق موهبة، والموهبة هي شرط أساسي والعمل على تلك الموهبة هو ما يحقق شرط الإبداع.
شاعر مبتدىء جاء إلى شاعر مبدع يسأله كيف يكتب تلك القصائد الرائعة لأنه يطمح أن يصير شاعراً كبيراً مثله، فأجابه الشاعر الكبير: ولكنني يا بني لم أسأل أحداً هذا السؤال عندما بدأت بالكتابة وكان يقصد أن المبدع وحده يعرف طريقه دون أن يسأل أحداً: من أين الطريق؟