سجلات شرعية للقضاء والمجتمع
أول الأبحاث تركزت حول القضاء والعلاقات الاجتماعية في القدس خلال النصف الأول من القرن السادس عشر، حيث اعتمدت الباحثة د. عبلة سعيد المهتدي من الأردن في دراستها بالدرجة الأولى على سجلات القدس الشرعية المدونة في زمن الحكم العثماني والمحفوظ صورة عنها على ميكروفيلم لدى مركز الوثائق والمحفوظات في الجامعة الأردنية، وتعتبر هذه السجلات من أول وأهم المصادر الرسمية التي تؤرخ للقدس ولمختلف جوانب الحياة فيها خلال تلك الفترة.
وتشير د. عبلة إلى أنه وعلى الرغم من سوء وضع هذه السجلات الشرعية إلا أنها توفر مادة غنية بالوثائق والمعلومات الخاصة بتلك الفترة المبكرة من الحكم العثماني للقدس وتقدم صورة جيدة عن دور القضاء بالنسبة للحياة الاجتماعية في هذه المدينة، مع بعض الدلالات الواضحة على التغير المرحلي الذي شهدته.
وتحدثت الباحثة عن الأسس التشريعية والتنظيمية التي بني عليها الجهاز القضائي وآلية عمله وتنفيذه والذي كان من أبرز سماته أنه أعطى ولي الأمر صلاحية التشريع لما فيه مصلحة الرعية وبناء الدولة بحيث لايتناقض مع الشريعة الإسلامية، مبينة أن الجهاز القضائي في القدس خلال النصف الأول من القرن السادس عشر كان يتشكل من قضاة الشرع الشريف، وكان تعيين القاضي (حاكم الشرع) يتم من قبل أهل البلاد المحليين نظراً لاهتمام الدولة العثمانية بالأخذ في أعراف وتقاليد البلاد المفتوحة في القضاء، فضلاً عن أن تعيين قاضي القدس من السكان المحليين يبين رفعة المستوى العلمي الذي كان يتمتع به علماء الشرع من أهل القدس في تلك الفترة.
وبينت د. المهتدي أن العلاقة السائدة بين السكان مسلمين ومسيحيين كانت تتسم بالود وحسن الجوار، حيث سكنوا في حارات مشتركة، كما أن الدولة سنّت تشريعات تنظم العلاقة بين الطرفين .أما على الصعيد الاقتصادي فتبين جميع المؤشرات العامة عن المدينة أن القدس كانت مركزاً تجارياً نشطاً ويتميز اقتصادها بالتنوع بين التجارة والصناعة والخدمات المختلفة، واللافت في مجتمعها خلال هذه الفترة أن للمرأة دوراً متميزاً في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وإذ القاضي يوافق على كفالتها في المال والذمة.
السياحة الصوفية
مظاهر التصوف في بيت المقدس، كما أوردها بعض الرحالة المسلمين في العهد العثماني على اختلاف مكانتهم الاجتماعية ودرجتهم الصوفية، كانت محور بحث د. بشرى خير بك من جامعة دمشق، وقد تناولتها من خلال أربع رحلات لثلاث شخصيات صوفية زارت القدس، وكان لكل منها تجربته، فالرحلة عندهم كانت تعبيراً عن تجربة شخصية تختلف من شخص إلى آخر حسب الموقع الذي يشغله مدونها، ومنهم الشيخ عبد الغني النابلسي وقد اعتمدت د، خير بك على رحلتيه الحضرة الأنسية في الرحلة المقدسية، والحقيقة والمجاز في رحلة بلاد الشام ومصر والحجاز.
وأوضحت الباحثة مكانة القدس الصوفية مشيرة إلى أنها شكلت بسبب قداستها التاريخية منعكساً مهماً لمراحل التطور الصوفي، حيث كان المسجد الأقصى نقطة جذب للزهاد والتعبد بعد الفتح العمري للقدس ولفتت إلى أن التصوف في العهد العثماني عانى من دخول بعض البدع والشعوذة والخرافة الأوهام ماأثر على مسيرة التصوف، وتوقفت عند ظاهرة السياحة الصوفية التي شكلت ركناً مهماً من أركان الطريق الصوفي، والملاحظ أن تتبع فكر هؤلاء الأولياء الذين ضمهم ثرى بيت المقدس حسب تاريخ وفاتهم يعطي صورة واضحة عن تطور الفكر الصوفي في التاريخ الإسلامي، وتحدثت د. خير بك بشكل مختصر عن أهم أنشطة رجال المتصوفة في القدس ومنها التأليف والتصنيف، ثم مناقشة المسائل الفقهية، مبينة أن مثل هذه الرحلات تعطي صورة وتجسد جانباً مهماً من جوانب الحياة الثقافية في القدس أواسط العهد العثماني الذي انتشرت فيه الصوفية انتشاراً واسعاً ضمن طبقاته الاجتماعية كلها بسبب التشجيع والدعم العثماني.
أطباء متميزون وافتراءات كاذبة
خلافاً لما ماأورده بعض الرحالة الأجانب الذين زاروا القدس في العهد العثماني واتهموا المسلمين، وكل سكان الأرض المقدسة بالجهل في الطب أظهر د. محمد ياسر زكور الباحث في تاريخ العلوم الطبية وثائق ومعلومات تستند إلى سجلات المحكمة الشرعية بالقدس وتثبت خطأ ما روّجت له المنظمات والمؤسسات الأجنبية وتفيد أنه كان بالقدس في ذلك العهد الكثير من الأطباء والجراحين والكحالين، وكان الأطباء الذين يعالجون المرضى في البيمارستان الصلاحي من الحاذقين الذين يستندون على قواعد أسلافهم في التراث الطبي الإسلامي القديم، إضافة إلى المؤلفات التي صنفها الأطباء في القدس في العهد العثماني.
أشار د. زكور إلى أن أول بيمارستان أنشئ في جند يسابور من بلاد الفرس قبل الإسلام، ثم انتشرت البيمارستانات أو (المشافي) في أغلب العواصم والبلدان في ظل الحضارة العربية والإسلامية، وتطرق إلى ذكر الأطباء الأوائل الذين خدموا مهنة الطب في البيمارستان الصلاحي ومنهم رشيد بن الصوري صاحب كتاب الأدوية المفردة، وبيّن الباحث أن البيمارستان الصلاحي استمر في أداء وظائفه لمدة ستة قرون خلافاً للرأي القائل :إنه زال من الوجود إثر زلزال هدمه سنة 682 هـ 1457/م وواصل هذا المشفى القيام بخدماته العلاجية إلا أنه لم يعط حقه عند المؤرخين والمؤلفين.
وتحدث د. زكور عن أطباء القدس والكتب والمؤلفات الطبية في العهد العثماني مشيراً إلى أنه يوجد اثنتا عشرة حجة شرعية عن الطب والطبابة بالقدس من القرن العاشر حتى الثاني عشر، وهي تلقي الضوء على تلك المهنة وتبين أن قاضي القدس كان في أحد أوجه عمله مسؤولاً عن الأطباء وإقرار تعيينهم أو رفضهم حسب الأهلية.