وتغتسل في بحيرة الحرية الزرقاء.. تسوح وتتناءى.. تترك وتمشي.. لا تلتفت إلى الوراء... وإنما تنظر إلى أمام... تكون فإذا بك، فجأة، غير كائن. تسأم - والسأم يخصك وحدك - فتسافر لتزيح هذا الثقل القابع على صدرك، وتجدد خلاياك الباهتة. يسأل عنك صديق واجهك البارحة، فيقال له سافر... فيقلب شفتيه تعجباً: لماذا لم يخبرني؟ فإذا علمت بتساؤله بعد عودتك تجيبه في السر أو في العلن: من يسافر وحده يسافر أسرع، لأنه لا يرتبط بغيره يخلو إلى ذاته وتخلو به في رحلة تأمل عميق ومن دون السفر تصبح شيئاً معتاداً مكروراً، كأنك جثة محنطة، تتنفس وتعمل وتأكل وتشرب وتنام وتصحو بلا طعم أن نكهة، موجود بكل لحظاتك وقدراتك، وأبعادك الإنسانية وأجهزتك الجمالية شبه مفقودة، إذن، فما قيمة حياتك إذا لم يكن لك نصيب فيها، وما أهميتها إذا عشتها دون أن تتمتع بامتلاكك لها؟
يسافر الإنسان ليقتحم رتابة آلياته المتشابهة ودوران أدواته المعهودة، ويسبح ضد التيار ويجلو صدأه الداخلي، ليكشف ويكتشف، ويلتقي ويبوح، يتعلم ويعلم، وليسترجع قوة ذاهبة ويستقبل عزيمة وافدة، فإذا به ينعم بواحة خلوة بعد صحراء شقوة، وبهدوء عصبي، بعد ضجيج نفسي، يعطي لذاته بعضاً من اهتمام بعد أن أعطى الآخرين جل الالتزام، ويعتني قليلاً بأناه بعد منح الكثير لسواه، وهكذا يتوحد لشخصه ويكتمل بالناس في آن واحد معاً، وفي هذا طيف من أطياف عقلانيته وروحانيته سوية.
ويقيم الإنسان - لا سفر ولا ترحال - فيتكدر لونه، وتتقلص مشاعره، ويقنط بدل أن يأمل، وإذا به - لفرط وجوده الوجودي وواقعيته المتشددة - يرتجف بكهرباء الانفعالية والعنف الجواني، وشدة التوتر والنزق، أو يسقط في غيابة الخمود والكسل وبؤرة العادة والاستعادة، فتندر نسمته العاطفية أو ضحكته القلبية، ويخسر جزءاً طبيعياً من عذوبة إنسانيته وشفافيتها المحببة، أحياناً يستطيع المرء أن يسافر دون أن يتحرك من مكانه، وهذا ما يسمى بالسفر داخل النفس ومسرى الأعصاب وكثيراً ما كان يقع مثل هذا النوع من السفر أو الشطح للصوفيين والدراويش الكبار كالحلاج والسهرودي وابن عربي وابن الفارض، فيتخيل أحدهم حاله وقد رحل إلى الصين أو الهند أو الأناضول وتجول في أسواقها وغشي معابدها، وجالس مشايخها وعلماءها، بينما هو في حقيقة الأمر لم يبرح موضعه في دمشق أو صنعاء أو بغداد أو القاهرة، ولكنها شهوة الترحال تفتح بوابة التصور المجنح والخيال الرفاف على مصاريعها الواسعة، فيتجسد الغائب بالحاضر والحسي بالعدمي، ويندغم الجزء بالكل والبسيط في المركب وتستحيل التخيلات إلى حقائق والأماني إلى وقائع في نظر أصحابها على الأقل، أو اعتقاداتهم الواهمة والحالة في رأي من لا يجاريهم في مذهبهم ومأربهم، والسفر للفنان، الشاعر، الرسام، الموسيقي... الخ تجربة وعطاء، يلهم ويخلق عوالم جديدة باهرة وتجارب نوعية متميزة، ومعايشة حية خلاقة، لذا كانت بعض الجوائز الأدبية والفنية، للعموم وليس للفنانين فقط بطاقة سفر بالطائرة أو الباخرة في رحلة حول عدد من بلدان العالم أو أحدها تعطى للفائز ليستمتع ويغير إهابه.
ولقد أشار الشاعر الفرنسي (بودلير) في قصيدته (دعوة للسفر) إلى الفسحة الروحية الجميلة التي يمنحها فعل الرحيل للمسافر العاشق بصحبة محبوبته خاصة والمتعة الإشراقية المشتركة التي يقطفان ثمارها اللذيذة في ارتياد المجاهيل: يا طفلتي.. يا أخيتي.. فكري في المتعة التي نجتنيها من أن نعيش معاً (هناك) نحب في هدوء، ونحب ونموت في البلاد الشبيهة بك.
ومن السفر، ما هو تشرد بوهيمي في مدينتك أو بلدك، ومشي بلا اتجاهات معينة إلى أهداف محددة طلباً لملء الفراغ، وإزجاء للوقت ورغبة في التسلية والمرح والحبور.. ولقد كان (رامبو) الشاعر الفرنسي المرهص بالرمزية يمضي في صباه الباكر متجولاً بخطا مسرعة تحت السماء الصافية المكوكبة بالنجوم، مرتدياً سترته البالة وسرواله الرث، خفيفاً كالريشة بقلبه الفائض بالشعر، المغمور بالأحلام الطفولية والأماني البعيدة، محمولاً على أجنحة الأمل والفرح، مدندناً قوافيه باتجاه حانة السعادة المترائية له عند أفق الغروب، ويجلس أحياناً عند حافتها في أماسي أيلول الرائعة، بعرقه المتقاطر من جبينه كالندى فوق الزهور كأنه وهو يربط سيور حذائه المهترئ من كثرة التنقل شاعراً جوالاً من شعراء (التروبادور) يدوزن قيثارته ويشد أوتارها التي هي شرايين قلبه.
وغالباً ما كانت تشردات رامبو الطويلة على الطرقات تقوده إلى بلد مجاور، فكان يدخل حانتها عند الغسق بعد رحلة شاقة سيراً على الأقدام، ويطلب عشاء ويجلس مسروراً على كرسي مريح ممدداً رجليه فوق المنضدة متأملاً بنشوة الصور الساذجة المعلقة على جدران غرفة الطعام المشهية التي تفوح منها رائحة مستطابة ممزوجة بفوح روائح الفاكهة مصغياً بلذة إلى دقات الساعة، ثم فجأة كان يفتح باب المطبخ العابق بضوع الأطعمة الزكية، وتخرج خادمة حسناء ممتلئة الجسم، مفعمة بالصحة، مرتدية ثياباً إباحية عمداً وتروح تغويه بنظرات وابتسامات غانية لعوب وتصف الصحون أمامه، مداعبة بشرته الوردية بإصبعها، مؤشرة بفمها علامة تكشير صبيانية كلها فتنة وإغراء، وكانت تفتعل - لتستثيره- دور من يرتب الصفرة وتحتك به قصداً وتوشوشه بغنج ودلال لتحصل منه على قبلة خاطفة: (تحسسي بشرتي، لقد تلقيت هبة من البرد على وجنتي) فيما يروح يأكل بشهية عظيمة والشمس تغيب في الخارج حياة رامبو هذه التي قضى سنة منها على الأقل يتشرد على الأقدام أو يركب في العربات أو أي واسطة نقل متاحة مع صديقه فرلين في بعض بلدان القارة الأوروبية يتسقطان طعامهما من السابلة أو الأوروبية أو من الجنود في ثكناتها وينامان على أرصفة الطرقات أو تحت الجسور ويتخاصمان أو يتراضيان تبعاً للمزاج والظروف، ويكتبان الشعر، هي ما عناه شاعرنا عبد السلام عيون السود وهو يتحدث عن المناخ الإنساني للفنان ليبدع عندما هتف: لسنا أقل موهبة وحمى من بودلير وفرلين ورامبو، لكننا مع الأسف لم نتعرض لما تعرضوا له من تجارب ولم نسعد بما سعدوا به من حضارة تتجاوب أصداؤها ثرة ملهمة في أضيق الغرف وأحقر الحانات ثم يتابع عبد السلام بلهفة افتقاد: (والمرأة ياصديقي هذه النسمة الأحب، الأحب أين نجدها؟).
من أجل هذا كان السفر حتى للمريض طريقاً من أجل الشفاء أو قد يكون في بعض الحالات هو الشفاء بعينه وخاصة في الأزمات العصبية والأمراض النفسية يغشيان الأرواح الحساسة والطبائع المرهقة فتعاني ما تعاني من وطأة الحياة وقسوة معيشتها وتتحمل من أعباء مصائرها مالا يحتمل من مشارط الآلام الداخلية العنيفة، ومن أجل هذا كان السفر للحزين والمهموم والمتألم والمحبط أوالمأزوم المستوحش من الوجود والمحاصر المقهور والمرتبط بذاته أو بالجماعة تسلية وسلوى وانفتاحاً بعد انغلاق وومضة ضوء في صحراء الظلام، إنه احساس بالتحرر من القيود أياً كان نوعها ودعوة للخروج من الصدأ والنخر والحت الجسدي والسأم اليومي والانسحاقات الحياتية، وهو بالتالي نافذة على غبطة من نوع خاص كانت مغلقة، وتلبية لنداء غامض مجهول كان مكتوماً.
إذا تركت المدينة إلى القرية أو العكس فهذا سفر، إذا قابلت البحر وكنت لم تره منذ زمن بعيد فهذا سفر، وحتى إذا انتقلت من حي في بلدتك إلى حي آخر في أقصاها فهذا سفر..إذا زرت صديقاً مضى عليك وقت طويل لم تزره فهذا سفر، إذا عدت إلى ذكريات طفولتك وأنت مسن واستحضرتها للآخرين فهذا سفر..المهم أن تنتقل بالجسد أو بالعقل..أن تنفلت من الإقامة المستديمة حتى لا تبلى وتتجعد وأن تعيد إلى حافظتك مقولة أبي تمام: «اغترب تتجدد» وألا يأسرك المكان والزمان ومن السفر ما يكلف كثيراً ويتصف بالبذخ والإسراف والمغالاة، لما في الاستعداد له وتنفيذه والعناية بشكلياته من الشطط في الترف والرفاه، ومن السفر ما يمكن أن ينقضي بأجور الطريق-أياً كانت وسيلة الرحلة- والإقامة والطعام بشكل يقيم الحياة ويرضي النفس، ومن السفر كذلك مالا يكلف إلا القليل النادر على الطريقة الغربية تقفز من حافلة إلى حافلة أو تقبع على دراجتك النارية أو العادية، وإذا كنت رحالة فتقطع القارات وتحل ضيفاً على فنذق رخيص أو تنام في خيمة، وإذا كنت عظيماً أو مشهوراً في أمر من الأمور أو ناحية من النواحي تنزل معززاً مكرماً على وجوه كل بلد تزوره فيمهرون لك (شيك) التشجيع والمثابرة، وقد تحمل هدايا سكانه إليك فأنت جوالة أو باحث أو صحفي أو مصور أو أثري..ولا بد ستذكر ديارهم ذكرى طيبة بما يكفي لهم الدعاوى المنتشرة والسيرورة الحسنة..أولم يقدم على مثل ذلك جدك ابن بطولة في بداية الربع الأول من القرن الثامن الهجري حين انطلق من مدينته ومسقط رأسه طنجة ليجول العالم على مدى عشرين سنة ويكتب رحلته الكبرى التي أسماها (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار).
ولكن من أحلى السفر عندما تكون على موعد مع حبيبة فتقطع المسافات إلى مدينتها لتلتقيها هناك وتتباوحان بمشاعر الحب الصافية والشوق اللاهب، فيكون للسفر طعم آخر وللقاء لهفة حرى..ألم يكن جبران خليل جبران يسافر من ولايته التي يقطنها في أميركا الشمالية إلى ولاية ثانية تسكنها معبودته وملهمته ماري هاسكل ليجتمع بها..أو لم يكن كاتبنا القاص والمسرحي مراد السباعي في أيام شبابه الأول يمضي من حمص إلى دمشق ليقضي سويعات معدودة مع صديقته شارلوت في بهو أحد الفنادق ثم يعود إلى بلده محملاً بذكريات أجمل الأوقات، ومالنا لا نتذكر تاريخ الرحلة في شعرنا العربي القديم والوقوف على الأطلال الدارسة ومناجاة طيف المعشوقة الظاعنة.
إن سر عذوبة الرحلة..السفرة..النزهة.. هو أنها عيد صغير..وعمل مجاني..وهي بذلك إما تشبه الشعر، وإنها تحمل لنا معنى المغامرة، وإمكانية العثور على منحني طريق ساحر، على مفاجأة مثيرة، أو على طرفة نادرة مبتكرة: شجرة..زهرة..أو مشهد غير منتظر..إنها تسمح لنا أن نلقي نظرة بكراً على العالم، وأن نهرب من الهموم والمشكلات النفعية المتحكمة فينا، فنترك بالتالي ماوراءنا ونندفع إلى الأمام. ندير ظهرنا للماضي، ونتقذف نحو المستقبل.. إنها تتيح لنا أن نبث السرعة في إيقاع الزمن وأن نشعر بحريتنا المفتقدة وسط دنيا جديدة تتماوج صورها.. أمام أعيننا دون انقطاع.. لكن لكي تثمر الرحلة.. السفرة.. النزهة جمالياً ولكي تتمخض حقاً عن أحلام غنية وخصبة.. ولتتوالد من القيام بها حالات من اللذة والغبطة والإلهام.. يجب. كما قدمنا، أن يكون السائر على دروبها وحيداً.. إن السفر اختفاء ثم ظهور.. وحدة مع النفس ثم عودة للانخراط في لج العمل.
ماأغرب وأجرأ قول (رامبو) في إحدى رسائله إلى صديقه (أرنست رلاهاي): «حذار أن تدفن نفسك في مكتب الوظيفة أو في منزل العائلة.. إن أي نوع من البلادة أو التفاهة، أو الجمود الذهني.. يظل مقبولاً خارج مثل هذه الأماكن».
ترانا: هل نستطيع أن نتأخر عن دوامنا في أعمالنا ووظائفنا الرسمية أو الخاصة نصف ساعة دون أن نلقى من المسؤول عنا نظرة شذراء إن لم يكن أكثر.. وهل نجرؤ - إذا كنا ملتزمين - أن نتأخر عن العودة إلى منازلنا في مواعيدنا المحددة دون أن تكون لنا زوجاتنا بالمرصاد؟!.