فهم الذين مدَنوا أوروبا مادةً وعقلاً وأخلاقاً, والتاريخ لا يعرف أمةً أنتجت ما أنتجوه.. إن أوروبا مدينة للعرب بحضارتها, وإن العرب هم أول من علَّم العالم, كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين»..
إنها الحقائق التي توصَّل إليها أحد أشهر فلاسفة الغرب «غوستاف لوبون» المؤرخ الفرنسي الذي قام برحلاتٍ عديدة في العالم العربي. أيضاً, الذي درسَ وبحثَ طويلاً في أصولِ وتطورِ الحضارات الشرقية.. تلك الحضارات التي سرعان ما أنصفها وفي كتابه «حضارة العرب».. الذي ضمَّنه كل ما يتعلَّق بالثقافات والحضارات العربية..
نعم, هذا ما فعله «لوبون» في «حضارة العرب» الكتاب الذي جمع فيه عناصر الحضارة العربية وتأثيرها في العالم, وكذلك أسباب عظمتها وقوتها وتميّز لغتها.. تلك اللغة التي وجدَ بأنها ما حملته من الفصاحة والثراء, هو من أكسبَ العرب هيبتهم مثلما أكسبها انتشارها وسيادتها:
«إن العرب قد نجحوا في تحقيق ما عجزَ عن تحقيقه كل الغزاة والفاتحين قبلهم, إذ إنهم تمكنوا من تثبيتِ لغتهم لدى شعوب البلاد الأخرى, ولقد استطاعت اللغة العربية وفي كلِّ مكانٍ وصلت إليه, أن تحلَّ محل اللغات واللهجات المستعملة آنذاك, بل إنها استحالت إلى لغة عالمية»..
هكذا تصدّى «لوبون» لكلِّ من اتَّهم العرب ولغتهم.. لكلِّ من لم ينصف حضارتهم وأنكر فضلها, وبما أكَّده بالتوسعِ بحثاً, أراد وعندما قام بتدوينه عام 1884م في كتاب, أن يُذكِّر بأن أمة العرب:
«حقَّقت من المبتكرات العظيمة, ما لم تحقِّقه أمة أخرى, فالعرب أقاموا ديناً من أقوى الأديان التي سادت العالم.. أقاموا ديناً لا يزال تأثيره أشد حيوية من أي دينٍ آخر.. العرب مدَّنوا أوروبا ثقافةً وأخلاقاً, وإذا كان هناك أمة نقرُّ بأننا مدينونَ لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم, فالعرب هم تلك الأمة»..
لاشكَّ أنه كان قد توصَّل إلى كل هذا, بعد الكثير من الدراسات التي أراد منها الوصول إلى المعرفة.. معرفة المجتمعات وتطورها وخصوصاً العربية, وبما دفعه للقيام برحلاتٍ عديدة في العالم الإسلامي, ومن ثمَّ بتدوين ما نقتطف منه:
«على العالم أن يعترف للعرب بجميلِ صنعهم, ومنذ الفتوح العربية التي كان لها طابع خاص لم نجد له مثيلاً لدى الفاتحين الذين جاؤوا بعدهم, والذين وإن استطاعوا أن يقيموا دولاً عظيمة, إلا أنهم لم يؤسِّسوا حضارة, وكانت غاية جهودهم أن يستفيدوا من حضارة الأمم التي قهروها, وهو ما لم يفعله العرب الذين أنشؤوا بسرعة حضارة كثيرة الاختلاف عن الحضارات التي ظهرت قبلها, والذين تمكَّنوا من جذبِ أممِ كثيرة إلى دينهم ولغتهم, فضلاً عن إبداعاتهم وحضارتهم»..
نكتفي بهذا القدر مما أدان به «لوبون» كل من يحاول التنكّر لما قدمته حضارتنا العربية من كنوزٍ شهد بقيمتها ومكانتها كُثر من أدباء ومفكري ومؤرخي العالم.. نكتفي, ليكون آخر ما نختم به, ما قاله هذا المؤرخ الذي ترك من الكتب ما دلَّ فيه على ما تركته كل حضارة من حضارات العالم.. أيضاً, على أن الصهاينة:
«بدويون أفَّاكون, مغيرون سفاكون, مندفعون إلى الخصام الوحشي. فإذا ما بلغَ الجهد منهم ركنوا إلى خيالٍ رخيصٍ. تائهة أبصارهم في الفضاء, كسالى خالين من الفكرِ كأنعامهم التي يحرسونها.. لم يتجاوزوا أطوار الحضارة, وعندما خرجوا ليستقرّوا بفلسطين, وجدوا أنفسهم أمام أممٍ قوية متمدنة منذ زمنٍ طويل, فكان أمرهم كأمرِ جميع العروق التي لم تقتبس من الأمم العليا غير عيوبها وعاداتها الضارية ودعارتها وخرافاتها..