ولد أبو الدرداء عويمر بن ساعدة بن زيد بن قيس بن عامر بن عبد الله الأنصاري الخزرجي الأنصاري الخزرجي في المدينة المنورة، وكانت نفسه تميل للحكمة والتأمل، وحين بلغه وصول النبي إلى المدينة لم يدخل في جدل الأنصار حول ذلك، وكان مشغولاً بالتجارة إلى الشام، وكان لديه صنم يعكف على عبادته، وكان من آخر الخزرج إسلاماً.
وكان من خبر إسلامه أنه شغل عن قومه في أمر بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، واكتفى بصنم يعبده، وكان ابن رواحة صديقاً له في الجاهلية فأسرع ابن رواحة في الإسلام وأبطأ أبو الدرداء، حتى أتى داره ذات يوم، وهو في حانوته ومعه محمد بن مسلمة فاستأذنا أم الدرداء فأذنت لهما فلما دخلا دار أبي الدرداء كسرا صنمه جذاذا، فرجع أبو الدرداء فأخبرته أم الدرداء بما كان فجعل يجمع الصنم ويقول له ويحك هلا امتنعت!! هلا كففتهم عنك!!
فقالت أم الدرداء: لو كان ينفع أو يدفع عن أحد لدفع عن نفسه، وبعد تأمل ونظر أعد أبو الدرداء متاعه ثم اغتسل ولبس أجمل حلته، وأقبل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن رواحة ومحمد بن مسلمة، فنطق بالشهادتين وأسلم.
أسلم أبو الدرداء يوم بدر ولم يشهدها ولكنه شهد أحداً، ولما هُزم أصحاب رسول الله يوم أحد، كان أبو الدرداء يومئذ فيمن فاء إلى رسول الله في الناس، فلما أظلهم المشركون من فوقهم، قال رسول الله: اللهم، ليس لهم أن يَعْلُونا فثاب إليه ناس، وانتدبوا، وفيهم عويمر أبو الدرداء، حتى أدحضُوهم عن مكانهم، وكان أبو الدرداء يومئذ حسن البلاء. فقال رسول الله: نِعْمَ الفارس عُوَيْمِر!.
وكان دخول أبي الدرداء في الإسلام نقطة تحول كبيرة في حياته، حيث أعرض عن الدنيا واشتغل بأمر الآخرة، وذلك بسبب من طبيعته الميالة للتأمل والفكر، واستغرق في التأمل إلى حد أنساه واجباته اليومية، ومع أن موارده المالية كانت وافرة ولكنه أعرض عنها إعراض القادر الواثق، حتى قال فيه عبد الرحمن بن عوف: كان أبو الدرداء يدفع الدنيا عنه بالراحتين والصدر!!
وعن أبي جحيفة أن رسول الله آخى بين سلمان وأبي الدرداء ; فجاءه سلمان يزوره، فإذا أم الدرداء متبذلة، فقال: ما شأنك ؟ قالت: إن أخاك لاحاجة له في الدنيا، يقوم الليل، ويصوم النهار. فجاء أبو الدرداء، فرحـب به، وقرب إليه طعاما. فقال له سلمان: كُلْ. قال: إني صائم. قال: أقسمت عليك لتفطرن. فأكل معه. ثم بات عنده، فلما كان من الليل، أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال: إن لجسدك عليك حقا. ولربك عليك حقا. ولأهلك عليك حقاً; صم، وأفطر، وصل، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه.
فلما كان وجه الصبح، قال: قم الآن إن شئت ; فقاما، فتوضآ، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله بالذي أمره سلمان. فقال له: يا أبا الدرداء، إن لجسدك عليك حقا، مثل ما قال لك سلمان.
وكان أبو الدرداء مهتماً بما بعد الفتوح فالفتح الإسلامي كان نضالاً سياسياً وعسكرياً ضد الروم والفرس من الذين استغلوا خيرات العرب وأرادوها على تغيير جلدها وهويتها، فكان الإسلام للعرب رسالة تحرر ونور، وكان أبو الدرداء يدرك أن الفتح العسكري لا يمكن أن يغير الواقع على الأرض، إن طرد الظالم لا يكفي وحده لحل المشكلة بل لا بد من فريق من المعلمين والمرشدين لنقل قيم الإسلام إلى الناس، وكان طلائع المعلمين في المدينة خمسة من الصحابة وهم الذين جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهم معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبي بن كعب، وأبو أيوب الانصاري. فلما كان زمن عمر، كتب إليه يزيد بن أبي سفيان: إن أهل الشام قد كثروا، وملؤوا المدائن، واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن ويفقههم. فأعني برجال يعلمونهم. فدعا عمر الخمسـة; فقال: إن إخوانكم قد استعانوني من يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، فأعينوني يرحمكم الله بثلاثة منكم إن أحببتم، وإن انتدب ثلاثة منكم فليخرجوا.
وكان أبو أيوب قد أسن وكان أبي بن كعب مريضاً فخرج الثلاثة عبادة بن الصامت ومعاذ بن جبل وأبو الدرداء، وانتقل عبادة إلى لبنان فعلم فيها وسار معاذ بن جبل إلى الأردن حتى هلك بطاعون عمواس وسار أبو الدرداء إلى حمص فكان فيها زمناً يقضي بين الناس واتخذ لنفسه بحمص داراً ولكن سرعان ما جاءه خطاب حازم من عمر بن الخطاب جاء فيه:
أما كانت لك كفاية فيما بنت الروم عن تزيين الدنيا، وقد أذن الله بخرابها. فإذا أتاك كتابي، فانتقل إلى دمشق.
فرحل إلى دمشق واستقر بها واتخذ لنفسه مسجداً صغيراً عند سور دمشق الغربي، ولا تزال معالمه إلى اليوم وفيه كان يعلم العلم بالليل ويقضي بين الناس بالنهار، وكان من دقته في القضاء لا يحسم المسألة في حكم واحد بل كان يستأنفها بنفسه المرة والمرة، وكان إذا قضى بين اثنين، فانصرفا نظر إليهما ثم قال أعيدا علي مقالكما حتى يقضي فيه من جديد، فإن وافق قضاؤه الأول قضاءه الثاني، وإلا أحالهم إلى قاض آخر.
وعلى الرغم من مسؤولية القضاء في الشام ولكن أبا الدرداء لم يتوقف عن دوره في التعليم ونشر المعرفة والرواية، وكان مسجد دمشق يمتلئ بمجالس أبي الدرداء، وهو أول من ابتكر نظام الحلقات في التعليم، وتسمية العريف على الطلبة وتأهيله للتعليم فيما بعد، وعن مسلم بن مشكم: قال لي أبو الدرداء: اعدد من في مجلسنا. قال: فجاؤوا ألفاً وست مائة ونيفاً. فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، فإذا صلى الصبح، انفتل وقرأ جزءاً ; فيحدقون به يسمعون ألفاظه. وكان ابن عامر اليحصبي مقدما فيهم، وقد أصبح ابن عامر فيما بعد إمام الشام في القراءة وهو أحد القراء السبعة الذين انتهت إليهم الرياسة في الأمصار.
وقد منحه العلم هيبة ووقاراً، وأسس لمنزلة العلماء في الإسلام، وحين كان يفد للحج أو العمرة كانت الحجاز تفد إليه، عن الليلث قال: رأيت أبا الدرداء دخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومعه من الأتباع مثل السلطان: فمن سائل عن فريضة، ومن سائل عن حساب، وسائل عن حديث، وسائل عن معضلة، وسائل عن شعر.
روى عن أبي الدرداء عدد كبير من مشاهير الصحابة والتابعين، ويعكس ذلك قدر ما كان عليه أبو الدرداء من المنزلة في قلوب الناس، وممن روى عنه أنس بن مالك وفضالة بن عبيد وابن عباس وأبو أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم من جلة الصحابة وجبير ابن نفير وزيد بن وهب وأبو إدريس الخولاني وعلقمة بن قيس وقبيصة بن ذؤيب وزوجته أم الدرداء العالمة وابنه بلال بن أبي الدرداء وسعيد بن المسيب وعطاء بن يسار ومعدان بن أبي طلحة وأبو عبد الرحمن السلمي وخالد بن معدان وعبد الله بن عامر اليحصبي
واشتهر بوجه خاص علم زوجته الثانية أم الدرداء الصغرى هجيمة الوصابية التي أطلقت جهداً فريداً في تميكن المرأة، ومع أننا لا نعلم عن دور مباشر لأبي الدرداء في ذلك ولكنها بكل تأكيد كانت أثراً من فكره وحكمته، وقد اشتهرت أم الدرداء بفتاواها الجريئة في تمكين المرأة، وكانت تصلي بين الرجال في الصف الأول، وحين كانت تقيم دروسها في مسجد دمشق كان يتزاحم عليه المئات من الرجال والنساء، وكان عبد الملك بن مروان يحضر دروسها، وقد خطبها لنفسه مراراً فامتنعت، فلما يئس منها ذكرها بسوء ليغيظها، فقالت للواشي قل له: إن نؤبن بما ليس فينا فطالما مدحنا بما ليس منا، وامتنعت من الزواج من أحد بعد رحيل أبي الدرداء.
ولا شك أن أبا الدرداء كان معنياً بتمكين المرأة، ودفعها للمشاركة في الحياة، وقد اختار اسمه على غير عادة العرب من التكني بالذكور فقد تكنى ببنته الدرداء، وكانت جميلة عالمة موهوبة، وقد خطبها يزيد بن معاوية فما زال بها أبو الدرداء حتى رفضته، وحين سألوه في ذلك قال: خطب يزيد بن معاوية بنت أبى الدرداء فرده أبوها، وزوجها لرجل من عامة المسلمين. فسأله سائل عن سبب ذلك؟!
فقال: إنما تحريت فيما صنعته صلاح أمر الدرداء.. فقال: وكيف؟
فقال: ما ظنكم بالدرداء إذا قام بين يديها العبيد يخدمونها، ووجدت نفسها فى قصور يخطف لألاؤها البصر..
لقد أرادها لرســـالة الإصلاح والبناء وهو ما يكـــــــون أبداً في قصر يزيد!!
نال أبو الدرداء لقب حكيم هذه الأمة واشتهرت مواقفه وكلماته في الحكمة والمعرفة، ورواها الناس من بعده، ويجري كثير منها على ألسنة الناس اليوم خبراً ومثلاً، لا يعلمون قائلها، وهي من كلام أبي الدرداء.
قال أبو الدرداء: لن تكون عالما حتى تكون متعلما، ولا تكون متعلما حتى تكون بما علمت عاملا ; إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال لي: ماعملت فيما علمت ؟.
وقال: ويل للذي لا يعلم مرة، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات.
وقال: لولا ثلاث ما أحببت البقاء: ساعة ظمأ الهواجر، والسجود في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون جيد الكلام كما ينتقى أطايب الثمر.
وقال: ثلاثة أحبهن، ويكرههن الناس: الفقر، والمرض، والموت. أحب الفقر تواضعا لربي، والموت اشتياقا لربي، والمرض تكفيرا لخطيئتي.
وقال: اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى، وإياك ودعوة المظلوم، واعلم أن قليلا يغنيك خير من كثير يلهيك، وأن البر لا يبلى، وأن الإثم لاينسى.
وقال: من أكثر ذكر الموت قل فرحه، وقل حسده.
واشتهرت في التراث خطبة أبي الدرداء لأهل دمشق، ويقول فيها: يا أهل دمشق: أنتم الإخوان في الدين، والجيران في الدار، والأنصار على الأعداء..يا أهل دمشق: ما الذي يمنعكم من مودتي!! والاستجابة لنصيحتي!! وأنا لاأبتغي منكم شيئاً، فنصيحتي لكم ومؤونتي على غيركم....ياأهل دمشق: مالي أرى علماءكم يذهبون، وجهالكم لا يتعلمون، وأراكم قد أقبلتم على ماتكفل لكم به الله عز وجل وتركتم ما أمرتم.
يا أهل دمشق، اسمعوا مقالة أخ لكم ناصح، ما بالكم تجمعون ما لاتأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون.
وقد كان من كان قبلكم جمعوا كثيرا، وبنوا شديدا، وأملوا بعيدا، وماتوا قريبا؛ فأصبحت أعمالهم بورا، ومساكنهم قبورا، وأملهم غرورا.
ألا وإن عادا وثمود كانوا قد ملؤوا ما بين بصرى وعدن أموالا وأولادا ونعما، فمن يشتري مني ما تركوا بدرهمين.
عاش أبو الدرداء في دمشق قريباً من سبع عشرة سنة، نشر فيها العلم والحكمة حتى لقي الله قبل مقتل عثمان عام 32 هجرية ودفن بالباب الصغير، ومع أن قبره بالباب الصغير في مقابر دمشق، ولكن الناس اتخذوا في مسجده الذي كان يقرئ فيه قبراً ومشهداً له، وهو اليوم قائم عند السور الغربي لدمشق على جدار القلعة منه قريباً من باب الفرج، وذكر أبو عمرو الداني أن دار أبي الدرداء بباب البريد ودخلت في دولة صلاح الدين وهي تعرف بدار الغزي، ولعلها الدار نفسها التي فيها مشهده والله أعلم.