وبالتالي فإن تصعيد موسكو لهجتها في مواجهة الغرب وحلف شمال الأطلسي على جبهتي القوقاز والدرع الصاروخية له مبرراته الواقعية.
وهذا يعني أيضاً أن الأزمة الأميركية- الروسية مرشحة للتصعيد في أماكن أخرى من العالم بدءاً من أوروبا الشرقية. فلم تمض أيام على الصراع المسلح على جبهة القوقاز حتى سارعت واشنطن لتوقيع اتفاق يقضي بنشر الدرع الصاروخية الأميركية في بولندا والذي وقعه نائب وزير الخارجية البولندي أندريه كريمر وكبير المفاوضين الأميركيين جون رود.
وإعلان الرئيس الروسي ديمتري مديفيديف أن هذه الدرع الصاروخية الأميركية المعتزم نشرها في أوروبا الشرقية, تستهدف روسيا له دلالاته, وهو يعني أن موسكو تعتبر هذا الأمر خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه لأنه يهدد الأمن القومي الروسي مباشرة, فالأطلسي وصل إلى عقر دار روسيا, هو أمر لا يمكن للقيادة الروسية الحالية تحمله أو السكوت عنه, وهو ما أكد عليه نائب رئيس الأركان الروسي أناتولو توغوفيتسين عندما صرح بأن بولندا تجعل نفسها هدفاً للجيش الروسي مئة بالمئة بقبولها نشر أجزاء من الدرع الصاروخية, مضيفاً أن بلاده قد تستخدم الأسلحة النووية في الحالات التي يتطلبها نهجها العسكري, نحن إذاً أمام لوحة جديدة للعالم ترتسم ملامحها حالياً, فواشنطن التي شعرت بتفردها عقب انهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي سعت جاهدة لتحطيم الاتحاد الروسي ومنعه من تحقيق أي تقدم بل على العكس من ذلك وضعت كل قوتها لزعزعة استقراره اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً, بل وحاولت وتحاول تطويقه عسكرياً من خلال ضم العديد من دول الاتحاد السوفييتي السابق وبلدان أوروبا الشرقية إلى حلف الناتو.
وهي الآن تواصل مخططها لضم دول أخرى كانت يوماً ما تشكل جزءاً من الاتحاد السوفييتي مثل جورجيا إلى الحلف.
وهو ما أكدت عليه المستشارة الألمانية انجيلا ميركل بقولها إن جورجيا وأوكرانيا مازالتا مرشحتين للانضمام إلى الناتو, ولا يخلو من دلالة تصريح الرئيس الأوكراني فيكتور يونكو الذي دعا مدفيديف لمفاوضات عاجلة حول الأسطول الوسي في البحر الأسود المتمركز في جنوب أوكرانيا.
لكن يبدو أن الرياح تجري ليس كما تشتهي سفن الهيمنة الأميركية, فالدرع الصاروخية تعثرت في تشيكيا رغم أن واشنطن وبراغ وقعتا اتفاقاً مماثلاً للاتفاق مع وارسو لإقامة نظام رادار أمني للدرع, حيث إن البرلمان التشيكي لم يعط موافقته بعد.
إن ما يجري في منطقة القوقاز حالياً يشير بوضوح إلى أن فترة الهدنة الروسية- الأميركية قد انتهت, ورغم أن الولايات المتحدة لاتنوي الدخول في حرب ساخنة أو فاترة مع روسيا حالياً و الدليل أنها تركت جورجيا لمصيرها واكتفت بإرسال مساعدات عسكرية واقتصادية لها من خلال جسر جوي وباستخدام طائراتها العسكرية الضخمة, كما أعادت القوات الجورجية الموجودة في العراق إلى جورجيا بطائراتها أيضاً, وهو ما أكده وزير دفاعها روبرت غيتس عندما توقع بعض العواقب من جراء دفاع روسيا عن مصالحها في القوقاز وحسمها للأمور عسكرياً في أوسيتيا الجنوبية بعد الهجوم الجورجي عليها, وهو الذي قال: الأيام والشهور المقبلة ستحدد المسار المستقبلي للعلاقات الأميركية- الروسية لكنه استبعد استعمال القوة العسكرية لأن لدى إدارته مايشغلها في مناطق أخرى في العالم أكثر أهمية للولايات المتحدة من جورجيا.
ولكن هذا هو الجزء الظاهر من جبل الجليد, فروسيا نهضت من كبوتها وتصعيدها للهجة في مواجهة الغرب على جبهتي القوقاز والدرع الصاروخية يشي بأمور كثيرة أهمها أن الولايات المتحدة لم يعد بإمكانها التحكم والاستفراد بمصير العالم وإن أدواتها لم تعد قادرة على تنفيذ مؤامراتها بدءاً من إسرائيل التي زودت جورجيا بالأسلحة المتطورة (صواريخ وطائرات تجسس دون طيار وغير ذلك من أنواع الأسلحة) إضافة إلى إرسالها خبراء عسكريين لتدريب القوات الجورجية والقاصي والداني يعلم أن وزير الدفاع الجورجي ديفيد كيرز سفيلي درس في إسرائيل ووظف هذه العلاقة لتسليح بلاده بأموال أميركية, كما أن الضابط جيل ريش وهو صهيوني تولى قيادة فرقة الجليل خلال عدوان تموز 2006 على لبنان يدرب الوحدات الخاصة الجورجية, كذلك يورام يثير وضباط آخرون من سلاح البحرية والبر الإسرائيلين أشرفوا على تنظيم أجندة الاستخبارات الجورجية, وقد أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن إسرائيل مصدر أساسي للصواريخ وطائرات الاستطلاع والقنابل المحظورة دولياً إضافة إلى قيامها بتدريب الوحدات الخاصة الجورجية. نحن أمام لوحة جديدة للعالم ترتسم ملامحها حالياً شعارها كفى للهيمنة الأميركية, ولا يمكن لروسيا أن تسكت بعد اليوم عن محاولات تطويقها من جميع الجهات.
لقد دقت روسيا جرس الإنذار وعلى أميركا التفكير ملياً.