لولا بنيات كزغب القطا
رددن من بعض إلى بعض
لكان لي مضطرب واسع
في الأض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لامتنعت عيني عن الغمض
هذه الأبيات انتشرت لدى العامة والخاصة على حد سواء انتشار النار في الهشيم.
لكن محبي الأدب كانوا علي موعد مع قصيدة من عيون الشعر العربي تتغنى بالأطفال والطفولة,-فعندما شاءت الظروف أن يبتعد بدوي الجبل عن ربوع الوطن الغالي , تحركت نوازع الشوق في قلبه إلى حفيده الصغير محمد فكتب فيه من مغتربه في( جنيف) قصيدة سارت هي الأخرى على الشفاه ووجد فيها عشّاق الأدب ضرة تنافس قصيدة حطان بن المعلى روعة وفتنة , بل تفوقها روعة تصوير وشدة أسر, وراحت تلك القصيدة تتبوأ المكان الجدير بها على منصة الخلود بعاطفتها المتأججة المشبوبة, وصدق مشاعرها المتدفقة.
وصار أمراً بديهياً في مجالس الأدب أن تسمع الناس يرددون أبياتاً من خريدة البدوي الفريدة, ومن منا على سبيل المثال لايردد تلك الابيات التي يقول فيها:
وهل دللت لي الغوطتان لبانة
أحب من النعمى وأحلى وأعذبا
وسيماً من الأطفال لولاه لم أخف
على الشيب أن أنأى وأن أتغربا
يزف لنا الأعياد عيداً إذا خطا
وعيداً إذا ناغى وعيداً إذا حبا
كزغب القطا لو أنه راح صادياً
سكبت له عيني وقلبي ليشربا
ينام على أشواق قلبي بمهده
حريراً من الوشي اليماني مذهبا
وأسدل أجفاني غطاءً يظله
ويا ليتها كانت أحن وأعذبا
ويا رب من أجل الطفولة وحدها
أفض بركات السلم شرقاً ومغربا
وصن ضحكة الأطفال يا رب إنها
إذا غردت في موحش الرمل أعشبا
ولئن كانت أبيات هذه القصيدة العصماء التي يشدو الشاعر فيها للطفولة هي الأشهر فإن في القصيدة أبياتاً في الوصف, حلق البدوي فيها في سماء الخيال الخصب المديد نسراً يطوي الشمس تحت قوادمه وخوافيه.
كذلك زخرت القصيدة بالأبيات التي تحوي كماً وفيراً من الحكم التي تبقى صالحة لكل زمان ومكان.
ومن حكم القصيدة قول الشاعر:
فما الحزن إلا كالجمال أحبه
وأترفه ما كان أنأى وأصعبا
وقوله:
وبعض الهوى كالنور إن فاض يأتلق
وبعض الهوى كالغيث إن فاض خرّبا
وقوله:
وما لمت في سكب الدموع فلم تكن
خلقت دموع العين إلا لتسكبا
ولكن لي في صون دمعي مذهباً فمن شاء عاناه ومن شاء نكبا
أما الأبيات التي غاص فيها البدوي في بحر الوصف ليخرج منه بأروع اللآلىء ,فتتجلى في وصف الغمام الذي تمنى الشاعر أن تغمر قطراته كل ذرة من تراب الوطن الغالي: وجلجل في أرض الجزيرة صيّب
يزاحم في السقيا وفي الحسن صيبا
سحائب من شرق وغرب يلمها
من الريح راع أهوج العنف مغضبا
له البرق سوط لاتند غمامة
لتشرد إلا حز فيها وألهبا
يؤلفها حيناً وتطفر جفلاً
وحاول لم يقنط إلى أن تغلبا
أنخن على طول السماء وعرضها يزاحم منها المكنب الضخم منكبا
فلم أدر هل أم السماء قطيعه
من الغيم أم أم الخباء المطنبا
تبرج للصحراء قبل انسكابه
فلو كان للصحراء ريق تحلبا
كأن طباع الغيد فيه فإن دنا
قليلاً نأى حتى لقد عز مطلبا
ويبده بالسقيا على غير موعد فما هي إلا لمحة وتصببا
إلى أن جلاها كالكعاب تزينت
لتحسد من أترابها أولتخطبا
ومرت على سمر الخيام غمامة
تجر على صادٍ من الرمل هيدبا
نطاف عذاب رشها الغيم لؤلؤاً
وتبراً فما أغنى وأزهى وأعجبا
حبت كل ذي روح كريم عطائها
فلم تنس آراماً ولم تنس أذؤباً
والقصيدة بمجملها متحف يزخر بالصور البديعة التي تشير إلي علو كعب البدوي في مضمار الوصف, وحبذا لو تمت العودة إلى القصيدة للتنقيب عما تحتويه من كنوز خبيئة, تذكر بعبقرية هذا الشاعر الكبير الذي كان مطمئناً إلى أن الخلود رفيقه الذي لايفارقه لذلك قال:
الخالدان ولا أعد الشمس شعري والزمان