لكننا غير معنيين الآن بالتفكير فيما هو أبعد من ذلك حيث يبدو أو لاشيء غير ذلك يستحق أن نفكر به الآن, ولكن تشكيل وعي شعبي لدى كل مواطن بالمخاطر العاجلة أو الآجلة من جراء الفتنة هو أمر لامفر منه فلعل تقدير نوع المخاطر الآجلة يسهم في تقليص المخاطر العاجلة كما أن استحقاق معالجة المخاطر الآجلة هو أمر لابد منه, وعلينا أن نستعد له منذ الآن أو أن نبذل الجهد لتخفيف هذه المخاطر منذ الآن فما هي المخاطر التي نشير إليها هنا؟
إنها للأسف مخاطر لايشملها الآن أي إحصاء ويكاد لايفكر بتأثيرها المستقبلي الخطير أحد فنحن أمام نموذج من الضحايا ليسوا صرعى إطلاق النار في حد ذاته وإنما هم ضحايا أو صرعى وسائل أخرى وبالتحديد هم صرعى كلمة الحرية التي جرى تسويقها دون تحديد, وإذا كان الكثيرون من بيننا وإزاء ملاحظة الممارسات الغربية لدراويش الحرية قد تساءلوا: أهذا هو نمط الحرية المقصود؟ فإن الدراسة المتمعنة لما يحدث يقودنا للأسف إلى استنتاجات لاتكاد تخطر على بال أحد, ولعلنا لانجافي الحقيقة إذا قلنا بأن الأميركي الذي يصدر لنا الفتنة يهدف إلى أن يصدر لنا أسوأ المظاهر التي يعاني منها المجتمع الأميركي, بينما لايعاني مجتمعنا منها بحيث سنتعرف بدءاً من الآن على ضحايا لظواهر لم تكن بلادنا تعاني منها بشكل جدي حتى لا ندعي بأنه لم يكن لها وجود محدود.
إن بوسعنا تصنيف ضحايا الفتنة وما سيلحق المجتمع من مشكلات طارئة ضمن المعطيات الأساسية التالية:
1- ضحايا فضائيات الفتن: إن من يقعون في مطب الاقتصار على متابعة فضائيات الفتن دون سواها من غير شريحة الفاتنين والمفتونين الفعليين أي من المواطنين الأبرياء يجدون أنفسهم في حالة توتر نفسي لايجدون السبل إلى تفريغ ضغوطه عليهم بشكل أو بآخر, وتترتب على ذلك مع الوقت مشاكل نفسية قد تتمظهر في شكل أمراض نفسية أو عصبية, وقد تبدو نتائج هذه الحالة الآن على شكل هياج عصبي لايطيق صاحبه محاورة الآخرين وربما نميل إلى تفسيره بأنه تعصب ولكنه غالباً مايلازم أشخاصاً ليسوا متعصبين في الأصل وإنما عصبيتهم هي رد فعل للحصر النفسي الناجم عن تفاعلهم مع أكاذيب وتلفيقات فضائيات الفتن يأخذ شكل الهياج, وهذا الهياج سيقود مع الوقت إلى أمراض نفسية تستلزم العلاج, وعلينا أن نقدر بأن آثار الهياج المعبر عنه لفظياً تظل أخف بكثير من آثار كبت المشاعر وما تتضمنه من حصر نفسي, فالذي يعبر عن مشاعره بأي شكل كان وأياً ماكانت هذه المشاعر تتقلص احتمالات إصابته بأمراض نفسية خطيرة, وبالتالي فإن من الخير لنا أن نتعود سماع بعضنا البعض وإبداء آرائنا بصراحة وتغليب روح التفاعل الاجتماعي إذا أردنا أن نقلص من الآثار النفسية الناجمة عن التحريض والكذب اللذين تمارسهما فضائيات الفتن وبأسلوب المنطق الشعبي إذا وجدت الشخص الآخر محتقناً «دعه يفضفض عن نفسه» فهذه «الفضفضة» هي التي تحول دون مقاربة الإنسان لخطر الاصابة بمرض نفسي من شأنه تحطيم شخصية المريض.
2- ضحايا إدمان المخدرات: من المؤسف القول بأن مدبري الفتنة وبعض المنخرطين فيها يعكفون على ترويج أنواع معينة من الحبوب المخدرة التي تؤثر على عقول الأشخاص وخاصة في حالات التظاهر أو حالات العنف الجماعي التي تحاكي ما تعرف بـ «الظاهرة الجماهيرية» كما هي سائدة في الولايات المتحدة أصلا، ويتم التحريض على تناول هذه الحبوب المخدرة أو يجري طحنها ووضعها ضمن السندويشات الموزعة على المتظاهرين ومعروف أن تكرار هذه العملية يقود إلى الإدمان وبالتالي سعي الفرد وراء الحصول عليها بأي شكل من الأشكال وبأي ثمن كان، وبالتالي فإن ظاهرة التظاهر تنتهي وظاهرة التوزيع المجاني لهذه الحبوب من المحرضين على الفتنة تنتهي غير أن سعي من أدمن تناولها للحصول عليها بأي ثمن لن ينتهي وظاهرة استمرار البعض في تهريبها بقصد الاتجار بها لن تنتهي وهكذا فإن المجتمع السوري الذي كان يفاخر عالمياً بأن سورية موطن عبور لمهربي المخدرات ولكنها ليست سوقاً استهلاكياً لها سيواجه مشكلة وجود شريحة اجتماعية تتعاطى الحبوب المخدرة كإحدى النتائج الناجمة عن محاولات إثارة الفتنة.
3- ضحايا إدمان القتل: والمقصود هنا أولئك الأفراد الأبرياء الذين لم يفكروا في ارتكاب جريمة القتل في أي وقت من الأوقات في الماضي ولكنهم تحت تأثير الهياج أو «الظاهرة الجماهيرية» وعدواها أو تحت تأثير الإغراء والتحريض وجدوا أنفسهم يرتكبون جريمة قتل ومعروف هنا أن جريمة القتل الأولى تكسر حاجز الخوف من القتل لدى مرتكبها فيكون مرشحاً لارتكاب جرائم قتل أخرى في المستقبل، ومن هنا يخشى على المجتمع السوري الذي كانت ظاهرة جرائم القتل فيه محدودة للغاية في الماضي أن يعاني في المستقبل من ازدياد عدد جرائم القتل.
4- ضحايا أساليب الكذب والغش والتدليس: وهم أولئك الذين أسندت إليهم مهام إعلامية للتواصل مع فضائيات الفتن أو أولئك الذين كلفوا بمهام بث الشائعات الكاذبة، ونلاحظ من خلال اعترافات بعضهم أنهم مارسوا مثل هذه الأساليب عن وعي لقاء مبالغ مالية معينة دفعت لهم وهذا يعني اتساع دائرة من يمارسون مثل هذه الأساليب في علاقاتهم الاجتماعية مستقبلاً حيث تنتهي الفتنة ولكن تستمر الممارسات المستوحاة من هذه الأساليب.
5- ضحايا ازدياد عمليات التهريب: لقد أدت الفتنة ليس فقط إلى انتعاش دور المهربين ولكن أيضاً إلى تزايد أعدادهم وتغير نمط اهتمامهم حيث باتت الأسلحة والحبوب المخدرة من بين المهربات كما أن شبكات التهريب الحدودية حاولت إيجاد مسارب إلى الداخل موسعة نطاق التهريب والمشكلة هي أن الأرباح المترتبة على عملية التهريب ستغري على استمرار هذه العملية مستقبلاً مع وجود شبكات مساعدة لها في الأقطار المجاورة وبشكل خاص لبنان والأردن وتركيا.
6- ضحايا ضخ الأموال: سواء كان هؤلاء من كبار المستفيدين أو صغارهم فإنهم بعد أن حصلوا على مصادر سهلة للحصول على المال سيفكرون في مصادر بديلة للحصول على المال بعد أن يتوقف الضخ الفتنوي، وهذا الوضع قد يدخل إلى مجال اللصوصية أو الاحتيال والنصب شبكات جديدة لم تطرق هذا المجال في الماضي ولم يفكر أفرادها بأنهم سينحرفون في هذا المنحى قبل أن تقودهم الفتنة إلى مثل هذه الدروب.
7- ضحايا الثأر: تتكشف يوماً بعد يوم ومن خلال اعترافات المتورطين حقيقة الأشخاص الذين يقفون وراء مصرع أشخاص آخرين وغالباً ما يكون الجاني منتمياً إلى مدينة أو قرية الضحية كما أن البعض استغل ظروف الفتنة لارتكاب جرائم ثأر وهذا قد يشجع منطق الأخذ بالثأر لدى أهالي الضحايا بحيث تستمر هذه الظاهرة لفترة من الزمن في المستقبل.
8- ضحايا الحقد والضغينة: من المؤسف القول بأن الخلاف المتجذر والحدي حول فهم وتقييم مايحدث يقود إلى التأثير على علاقات المودة بين الأفراد ومن المتوقع أن تزداد خطورة هذه الظاهرة في حالة استمرار وتعمق العنف والإرهاب الذي يرتكب ضد المجتمع وبالتالي، فإن الكثير من العلاقات الإنسانية الطبيعية بين الأفراد ستتأثر وقد يدخل الشقاق حتى إلى داخل البيت الواحد كما أن مايحدث قد يؤدي إلى ازدياد حالات الطلاق في حالة وقوع الخلاف بين الزوج وزوجته حول تقييم الموقف.
9- ضحايا الملاحقة الجنائية: وهؤلاء هم الأفراد الذين تورطوا في الفتنة وحملوا السلاح ومارسوا القتل والتخريب ومن الواضح أن الكثيرين منهم سيعمدون إلى اللجوء للأقطار المجاورة وهذا ما ستنشأ عنه مشكلات كثيرة لم يفكر المتورطون بإمكانية مواجهتها عند انزلاق أقدامهم إلى المساهمة في الفتنة فبينما يتفادى أغلبهم العودة إلى الوطن ومواجهة احتمالات المحاسبة فإن الأقطار التي هربوا إليها أو التي يمكن أن يلجؤوا إليها لن تكون معنية بحل مشكلاتهم الإنسانية بعد انتهاء دورهم في الفتنة وثمة وجه آخر لهذه المشكلة يتمثل في قطاع الطرق فبعض العصابات المسلحة الآن باتت تمارس قطع الطرق عملياً وهو مايذكرنا بما كانت عليه البلاد في العهد العثماني مع وضع تطور الحياة ووسائل التنقل في الاعتبار.
10- ضحايا عرقلة العملية التعليمية: وهذا اللون من الممارسات الفتنوية الهادف إلى شل العملية التربوية التعليمية حتى على مستوى المدارس الابتدائية يبدو من أغرب أشكال الفعل الفتنوي وكأن أصحابه يريدون إحلال الجهل محل العلم وإذا كانت السلطات السورية قد عملت بكل السبل والوسائل لضمان استمرار العملية التعليمية وتأمين الامتحانات في دورتين مراعاة لأحوال بعض المناطق فإن الطلاب الليبيين مثلاً قد خسروا العام الدراسي المنصرم ويواجهون خطر فقدان العام الدراسي الحالي أي إضاعة سنتين دراسيتين من حياة الطلاب ولايجوز لنا أن ننسى هنا تأثير عامل الخوف من الملثمين والجرائم المرتكبة ومنها محاولة منع الأطفال من الدراسة إضافة إلى إطلاق النار بشكل عشوائي على الأطفال نفسياً وعلى مستوى تحصيلهم العلمي نظراً لما تسببه مثل هذه الظروف من خوف وشرود يؤدي إلى عدم التركيز وقلة النوم.
11- ضحايا تخريب المنشآت والآليات: وهؤلاء عملياً هم جميع المواطنين دون استثناء فالمنشآت والآليات التي تعرضت للتخريب أو الإحراق هي ملك للمجتمع ككل حتى وإن كانت بعضها من الممتلكات الخاصة والتعويض عنها سيأتي من قبل جميع المواطنين أو على حساب نفقات أخرى كان يجب إنفاقها في عملية التطوير وليس في عملية التعويض عن الأشياء التي تعرضت للتدمير.
12- ضحايا التأثير على الاقتصاد: وهو تأثير مزدوج بعضه يتعلق بالعقوبات الخارجية التي هي سلاح من أسلحة الفتنة وتأثيرها على الاقتصاد وبعضه الآخر يعود إلى إعاقة النشاط الاقتصادي في بعض المناطق أو عرقلة عملية النمو الاقتصادي أو التأثير على سعر النقد إلى غير ذلك من الآثار السلبية التي يمكن أن يواجهها الاقتصاد بسبب الفتنة والواقع أن مدبري الفتنة، يعلقون أهمية خاصة على الآثار الاقتصادية كعامل ضغط على المجتمع وخياراته مفترضين أن بعض فئات المجتمع لن تتحمل الآثار الاقتصادية للفتنة.
لقد آثرنا استخدام كلمة «ضحايا» في جميع الحالات على قاعدة التسليم بأن المسؤولية الأولى عن وقوع كل هذه المشكلات وغيرها تقع على «الفتان الأكبر» أي مدبر الفتنة وأن نتائج هذه الفتنة ستؤثر على المجتمع المستهدف ككل ومن المؤكد أن مدبري الفتنة يقدرون أصلاً أن مثل هذه المشكلات ستحدث سواء نجحت الفتنة أم أخفقت وأن شرورها ستطال جميع المواطنين بغض النظر عن وجهات نظرهم المتعددة أو خياراتهم خلال الأحداث وأن هذه هي في أغلبها أنماط الحرية التي يثيرون الفتنة باسمها بحيث لايقتصر الأمر على مايفترض أنه تطوير للممارسة السياسية الديمقراطية وإنما نحن أمام أشكال من السلوكيات المنحرفة التي تلحق الأذى بالمجتمع وتستمر آثارها إلى مدى زمني طويل وهي سلوكيات يمكن أن تندرج جميعاً تحت عنوان «الإفساد» رغم أن الذريعة الأصلية لإثارة الفتنة جاءت تحت عنوان المطالبة بالإصلاح.