والإصرار على مواصلة الحرب دون استماع لمناشدات دولية، تماماً مثلما كان التركيز في العدوان على لبنان على أن حزب الله هو الهدف، والمطلوب هو إخراجه عسكرياً وسياسياً من معادلة توازن القوى مع إسرائيل وداخل لبنان.
ولكن رغم هذا أكسب الإسرائيليون حربهم على قطاع غزة العديد من العناصر الجديدة، فعلى المستوى العسكري، استخدموا في الحرب على غزة ترسانةً هائلةً من الأسلحة الأميركية الأشد فتكاً وضراوة والمحرمة دولياً، ولكن الأهم أن إسرائيل عملت على توظيف حالة الانقسام العربي تجاه هذه الحرب لتحقيق مكاسب سياسية، حيث ركزت على مسألة تضخيم ما أسمته الخطر الناجم عن نجاح حماس في إدخال أسلحة إلى قطاع غزة عبر الأنفاق التي نجحت في حفرها على طول الحدود مع مصر، ما يعني أن هذه الحدود أصبحت تشكل مصدر خطر حقيقي ومصدر تهديد أساسي لأمن إسرائيل.
والأهم من ذلك أيضاً وقبل ساعات من إعلان إسرائيل لوقف إطلاق النار من جانب واحد، كانت (تسيبي ليفني) تضع اللمسات الأخيرة مع نظيرتها الأميركية (السابقة) كوندا ليزا رايس على اتفاق أمني وصفته صحيفة بريطانية (التايمز) بأنه صفقة تهدف إلى الحيلولة دون وصول الأسلحة المرسلة إلى حماس من إيران أو غيرها عبر الحدود مع مصر.
بداية جاء الإعلان عن محتوى هذا الاتفاق الأمني أو المذكرة الأمنية شديد الخلل والتبسيط، إلا أن التدقيق في بنوده ومحتواه وأهدافه والتداعيات التي ستنجم عنه فيما تم تنفيذه، يؤكد أنه خطير جداً، ويهدف في جملة ما يهدف إليه إلى فرض انحراف شديد في جوهر الصراع الخاص بفلسطين، وهو تدبير شديد الاتقان كما وصفه بعض الخبراء العسكريين والسياسيين، لأنه يهدف أيضاً إلى جعل الدول المغتصبة والمحتلة لأراضي وحقوق الغير ضحية لـ (إرهاب) أصحاب الأرض والحق الشرعيين الذين يريدون استعادة حقوقهم المسلوبة، وتحويل واجب استعادة هذه الحقوق إلى جريمة تستوجب الحصار وفرض العقوبات ليس من قبل إسرائيل فقط، (الكيان المحتل والمغتصب، بل من جميع القوى الإقليمية والدولية، بما في ذلك دول عربية معروفة).
إن محتويات الاتفاق ونصوصه تدل دون أدنى شك على أنه لم يكن وليد لحظة توقيعه، بل هو معد ومدبر ومدروس سابقاً وبعناية قبل الحرب، وقد يكون هذا الاتفاق هو الدافع الأهم والسبب الأهم لشن هذه الحرب على قطاع غزة، ذلك أنه وراء كل فقرة من فقراته إشارة أو أكثر تفيد أن الحرب على قطاع غزة كانت تمهيداً ضرورياً لإنجاز وإصدار هذا الاتفاق الأمني الخطير، والذي جاءت صياغته بشكل ملتبس وغامض أولاً، وأنه ثانياً اتفاق ثنائي ولكن (بالتزامات جماعية)، ويفتح الباب أمام اجتهادات وتفسيرات قانونية وسياسية تشرع لحروب وعقوبات وأعمال حصار تفرض ليس فقط على قطاع غزة،ولكن على أي دولة شرق أوسطية لا تلتزم بإرادة إسرائيل والولايات المتحدة، أو تتبع سياسات ومواقف تتعارض مع مصالح هاتين الدولتين، ومع مضمون هذا الاتفاق والمهام التي حددها لمجموعة من الدول داخل وخارج المنطقة.
وهكذا فإن الاتفاق بهذا المعنى وضمن هذا التوجه والإطار ومن خلال محاولات توسيع دائرة الدول التي يجب أن تشارك به وتلتزم بتعليماته يهدف إلى إنشاء حلف دولي - إقليمي يسعى لفرض الحصار الدائم على قطاع غزة باعتباره مصدر المقاومة الآن، والجزء الفلسطيني الرافض لمحاولات الإخضاع والتدجين والتطويع وكسر الإرادة.
ولو تحقق هذا الحلف كما يريد منه أصحابه فسيكون حلفاً فريداً من نوعه، وذلك من حيث تحديه للقوانين الدولية، واستهتاره بالقرارات الدولية، لأن مهمته ستكون إسقاط كل ما تنص عليه القوانين والأعراف الدولية من مبادئ وخاصة مبدأ حق تقرير المصير وحق أي شعب في مقاومة الغزاة والمحتلين، وواجبات الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها في حماية الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، والخروج بشكل صارخ عن بنود اتفاقات جنيف الأربعة وما نصت عليه من واجبات على كيان الاحتلال، وعلى حقوق للشعب الخاضع للمحتلين، وعلى ضرورة التزام كافة الدول وخاصة دول الجوار بتقديم المساعدة والدعم لحركات التحرر الوطني في نضالها ضد قوى الاستعمار والاحتلال.
كذلك في حال تنفيذه سيكون بمثابة تجاوز للقرار /3103/ لسنة 1973 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت اسم (إعلان الحقوق الأساسية للمناضلين ضد القوى الاستعمارية والعنصرية والأجنبية) والذي يفرض على الدول تقديم كل أنواع الدعم للمقاومين من سلاح وغذاء ودواء وكل ما يلزم لمعارك التحرر والاستقلال الوطني.
إذاً، هكذا تتكشف حقيقة الحرب الإسرائيلية على غزة ومخاطرها على الشرعية الدولية، فهي حرب من أجل فرض شرعية الانخراط في حماية إسرائيل المغتصبة والمحتلة، بدلاً من قيام جميع الأطراف بمسؤولياتها في تحرير فلسطين، وبدلاً من التعامل مع إسرائيل باعتبارها كياناً إرهابياً وفاقداً للشرعية الدولية من خلال رفضها لجميع القرارات الدولية وخاصة قرار تقسيم فلسطين وقرار حق عودة اللاجئين وعشرات القرارات الأخرى.