دونما الالتفات إليه. حيلتي المعتادة لتفادي ذلك التعبير الذي سيتعمد رسمه على محياه كمدخل للبدء بالتفاوض حول الصفقة، خصوصاً في حال معرفته مسبقاً بالطبيعة الجيو-خدمية لحارتي القابعة في أعالي سفوح قاسيون، توجست شراً حين مرّت لحظات ولم تتحرك السيارة، فالتفتّ إليه متسائلا ً ومتحفزاً للجدال التقليدي الذي سينتهي غالباً بقبوله- على مضض- بعدّاد ونصف مع احتفاظه بحق التذمر من ضيق الشارع ومطباّته وحفره التي لا تناسب سيارته المدللة، فإذا به يرمقني بابتسامة لطيفة غير متوقعة متسائلا ً بود: حيان .. أليس كذلك؟
هتفت مندهشاً: من نورس!؟
- نعم .. نورس بشحمه ولحمه، أهلا ً بصديق الصبا .. والله زمان.
كان لدهشتي ما يبررها بالنظر لما أعرفه عن رفيق الدراسة الثانوية المتفوق الذي حاز على معدل جيد جداً في الشهادة الثانوية أهّله لدخول كلية التجارة والاقتصاد، ورغم انقطاع التواصل بيننا منذ ذلك الحين إلا أنني سمعت فيما بعد أنه قد نال الماجستير ومن ثم عُيّن في منصب محترم جداً، فكيف انتهى به الأمر كسائق تاكسي؟
سعادته الصادقة بلقائي ومبادرته بدعوتي للغداء بهذه المناسبة زادا الأمر غرابة، بدا بعيداً كل البعد عن الحرج الذي يشوب مواقف مماثلة عادة ً لمحت اهتمامه بتبديد دهشتي, ولم يكن لدي ما يشغلني في هذا الوقت- الميت- من النهار فقبلت دعوته دون تردد مدفوعاً بخواء معدتي وفضولي الكبير لاكتشاف ما وراء هذا الصديق القديم الأكاديمي سائق التاكسي.
تفاقمت دهشتي حين اصطحبني مباشرة ً إلى مطعم فاخر ورأيت كيفية استقباله من قبل كادر الخدمة كزبون دائم ومهم ومن ثم كمية ونوعية الطعام الذي انهال على مائدتنا، كل ذلك لم يكن بأي حال متناسباً مع مهنته، بصراحة.. (لعب الفار بعبي) وللحظة.. تبادر إلى مخيلتي مسلسل يوميات مدير عام، وافتراضات أخرى أكثر تطرفاً وغرابة ً قد تفسر اللغز الغامض.
ربما رأفة ً بي وبحيرتي، آثر الرجل الدخول بصلب الموضوع سريعاً بقوله:
-كيف يقولون إن الدنيا صغيرة وها نحن نعيش في نفس المدينة ولم تجمعنا المصادفة إلا بعد عشرين عاماً، نصفها أمضيته سارحاً في الشوارع أتصيد الركاب؟ على كل حال .. ها نحن التقينا، وقبل أن يسرقنا حديث الذكريات والأيام الخوالي, وكي لا تذهب بك الظنون بعيداً دعني بداية ً أجيب عن السؤال الذي لا بد يشغلك، بكل اختصار.. إنني أعمل أحياناً كسائق تاكسي بعد الظهر إضافة ً لوظيفتي، لا لحاجة مادية أبداً فالخير كثير كما ترى والحمد لله بل لسبب آخر سيبدو لك شديد الغرابة.. وصفة طبية، نعم.. أفعل ذلك امتثالا ً لوصفة طبية إبداعية أدين لصاحبها بالفضل بانتشالي من حالة مرضية نادرة مستعصية، بكل اختصار ممكن.. القصة قديمة تعود بداياتها إلى عهد الشنططة والتعتير أيام الدراسة الجامعية، وربما قبل ذلك بقليل، في تلك الأيام كثيراً ما كنت أجد نفسي مضطراً - كالكثيرين- تحت ضغط أزمة المواصلات لركوب تاكسي تقلني إلى الجامعة، وكان علي دائماً مراقبة أرقام العداد الحمراء المتصاعدة لكيلا تباغتني بتجاوزها المبلغ المرصود لأجرة الطريق اليومية المحسوبة بدقة، كان هناك دائماً حد أقصى لا ينبغي تجاوزه, حتى ولو لم يكفِ لإيصالي إلى الجامعة، وحدث مراراً أن طلبت من السائق التوقف قبيل الوصول إليها بمسافة طويلة توفيراً لبضع ليرات مخصصة لشأن ٍ وآن ٍ آخرين، كنت ألاحظ حينها مدى التوتر الذي تصيبني به تلك الأرقام المتقافزة، وبدأت تقلقني بعض أعراضه التي لا تنفك تلازمني كلما بدأت الأرقام بالتصاعد: تعرّق، ارتجاف اليدين، ألم غامض أسفل المعدة، وعصبية زائدة لا تزول إلا بعد دقائق من نزولي من السيارة!
طبعاً تجاهلت الأمر مضطراً، معللا ً النفس بالفرج بعد التخرج والالتحاق بوظيفة ما تكفيني شرّ الحسابات الصغيرة، ثم كانت المفاجأة المحبطة باستمرار الحالة، لا بل بتفاقمها، بعد حصولي على وظيفة محترمة، لم يعد الأمر متعلقاً بقدرتي على تسديد قيمة العداد, فقد ظلت الأعراض تنتابني أياً كان المبلغ الذي بحوزتي، فقررت مقاطعة سيارات الأجرة تحت أي ظرفٍ كان، ووضعت خطة طارئة لشراء سيارة مهما رتب عليّ ذلك من أعباء. حصلت على قرض وسددته كدفعة أولى من ثمنها وبقدرة قادر صرت من أصحاب السيارات، لأنتقل لمرحلة جديدة من الإحباط والمعاناة باكتشافي أن تضحيتي بنصف مرتبي لمدة خمس سنوات لم تغير في الأمر شيئاً، وغدا الهاجس كابوساً يؤرقني ويقضّ مضجعي متجاوزاً عداد سيارة الأجرة, ليشمل كل عداد تصاعدي أو تنازلي تقع عليه عيناي.. عداد محطة الوقود .. مؤشرات تابلوه السيارة .. الخ ، إلى هنا وأنا مصمم على تحمل المعاناة بصمت وخجل، لم أمتلك الجرأة للبوح بها لأحد ولا الثقة بقدرة طبّنا النفسي- المتخصص في علاج الصدمات العاطفية- على علاجها، ولكن الصدمة التالية كانت أشد وطأة ًمن قدرتي على الاحتمال والتجاهل، وذلك حين رُشحت لمنصب مدير قسم في البورصة– حديثة العهد آنذاك– وكان ذلك بمثابة قفزة كبرى على السلم الوظيفي أثارت حسد الكثيرين، ولكن.. خلال أيام فقط اصطدمت بعجزي عن تحمل ذلك الكم الهائل من الشاشات المتخمة بما لا يحصى من الأرقام الملونة التي لا تكف عن الحركة تصاعدياً وتنازلياً، فكان اعتذاري الغامض عن الاستمرار في المنصب مناسبة ً لاضطراري بالبوح بسرّ عقدتي لصديق حميم– لجوج- لم يتقبل فكرة خسارتي لمستقبلي الوظيفي بهذه البساطة, فأصر على اصطحابي إلى طبيب نفسي قال إنه الأقدر على حل عقدتي.
هل تسمع بجنون العبقرية؟ إنه الوصف أو التعبير الأمثل لشخصية ذلك الطبيب الذي استقبلنا في عيادة أشبه بمستودع خردة، تعج بأشياء بالية لا تمت بصلة لمهنته- المعروف بها على الأقل– إطار سيارة قديم، أواني نحاسية، فأس صدىء، بالإضافة لعدة تصليح أحذية من مطرقة وسندان ومسامير وغيرها، وعلى أنغام صوت (سارية السواس) الذي يصدح من آلة تسجيل قديمة مربوطة بخيط حذاء يجمع بين أجزائها المفككة، لم يكد يستمع إلي لأكثر من دقيقتين بدا خلالهما منشغلا ً بالحفاظ على تماسك واشتعال سيجارته (اللف) أكثر من انشغاله بحديثي حتى قاطعني قائلا ً: حسناً.. حسناً، مشكلتك شائعة وحلها بسيط، عليك أن تنتقل من موقع الضحية إلى موقع الجلاد.. أرى أن تعمل كسائق تاكسي, وستلمس تحسناً سريعاً.
بدا الأمر برمته مزحة ثقيلة لولا أن أسرّ لي صديقي فور خروجنا- مستبقاً ردة فعلي- بأنه قد شفي من حالة نفسية مزرية بفضل وصفة هذا الطبيب الذي نصحه بترك مهنة الهندسة والعمل كمدرس مادة رياضيات، على نفس مبدأ نظرية الضحية والجلاد. بعد جدال طويل اختلط فيه الجد بالهزل، أقنعني بتجربة الوصفة ليوم واحد متبرعا ًبتأمين سيارة الأجرة، وكان الأمر.
وفعلا ً.. ولدى تعاملي مع أول ضحية (راكب)، لمست مدى نجاعة الوصفة العبقرية، توتره وهدوئي، ارتباكه واطمئناني، تلك النظرة القلقة المتوسلة في عينيه, بينما تراقبان أرقام العداد في مقابل نظراتي الواثقة اللامبالية صوب الطريق، كل ذلك كان بمثابة بلسم شافٍ لعقدتي المزمنة، وآمنت بعبقرية طبيبي الاسكافي.
في اليوم التالي, سحبت اعتذاري واستلمت منصبي في البورصة بكل اقتدار وثقة ما زلت أعززها يومياً بشيء من الرياضة الروحية وراء المقود- والعداد -
ختم صديقي القديم قصته التي أنستني معدتي الخاوية والطعام الشهي على المائدة، متحيّناً الفرصة المناسبة والجرأة لسؤاله عن عنوان ذلك الطبيب.