حتى إذا اندفعت فتاة نحو العروس ودعتها للرقص, تمنعت بدلال مصطنع ثم وقفت وراحت تتمايل على إيقاع موسيقا أغنية شعبية, واندفعت فتيات أخريات شاركن العروس الرقص إلا الحبيبة التي كانت تبتسم ولا يعرف العاشق ماذا يعتمل في فكرها, بينما هي تعرف أنه يموت بها عشقا, وأنه لا يفكر الآن إلا بها مثلما هو دائما لا يفكر إلا بها حيثما يكون وحيثما تكون.
ولما هدأت عاصفة الرقص استغرب العاشق عندما انتبه أن كل العيون توجهت نحو حبيبته, فنظرت إليه وأشارت: هل أفعل ? وهو لا يعرف ماذا ستفعل, لكنه يعرف دائما أنها تفعل الصواب.. هز رأسه بالإيجاب, ذهبت إلى آلة التسجيل ووضعت فيها كاسيت للمطربة أصالة التي تغني فيها أغنية مطلعها:( يمين الله أحبك حب ما له حدود).
وما أن شرعت الأغنية موسيقاها, إذ أصبحت الحبيبة وسط الصالة ترقص وحدها رقصا تعبيريا كأن كل حركة فيه كلمة من الأغنية.. انشدهت العيون نحوها.. حتى الفتيات اللواتي رقصن قبلها دهشن لهذا الرقص المعبر, فلم يزاحمنها, وظللن في أمكنتهن يصفقن لهذه الحسناء كما لو أنها من كوكب آخر, لا أحد يشبهها ولا تشبه أحدا.. إنما تشبه نفسها بطلتها السمراء بعينيها المذهلتين, فطولها الفارع بجسدها المشدود إلى كبرياء.. لم تنظر الحبيبة إلا في وجه حبيبها, غمرته سعادة لا توصف فهي الآن لا ترقص إلا له... وتدمدم بالأغنية على شفتيها: (يمين الله أحبك حب ما له حدود) كأنها حفظت الأغنية عن ظهر قلب, تميل نحوه بجسدها الطري, وتشير بسبابتها إليه كلما قالت المغنية: ( أحبك ..) فلا يستطيع إلا أن يرسم على شفتيه هو الآخر كلمة ( أحبك).
خيل للعاشق في لحظة ما أن الصالة أفرغت من ناسها وأن الذين كانوا يصفقون قد اختفوا تماما.. فلم يعد في المكان إلا هو والأغنية والحبيبة.
ترى ماذا يفعل العشق بالمحبين?
إنه يمجدهما بعضهما إلى بعض, يجمعهما جسدين في روح واحدة, يتداخلان كما تتداخل الوردة بغصنها, وكما حبة القمح في السنبلة, إنها حالة من الاندماج لا يعرفها إلا الذين عشقوا حتى الموت وأحبوا حتى النهاية.
الحب الحقيقي حالة نادرة ربما تحصل كل مئة سنة مرة واحدة وربما كل خمسمئة سنة مرة واحدة, مرة تجعل من الوجود شيئا مختلفا عما عرفه الناس في حياتهم العادية.. في مثل هذه المرة, تنهض من الأرض حكاية لا أجمل ولا أحلى, بل إن عطر الورد يفيض, ومياه الينابيع تصبح أنقى, ويتطهر الهواء من فساده ويعطي التراب أطيب الثمر.
علماء الطبيعة يقولون إن الأرض تغير جلدها كل مئة عام, يفذلكون أقوالهم ويعلنون آراءهم ولكن ليس إلا العشاق يعرفون الحقيقة.. تتغير قشرة الأرض كل مئة عام, لأن عشقا نادرا جميلا, عاصفا, نقيا, موحيا ولد في الأرض, عشقا بين عاشقين يحدث التحولات, وبهما يكثر المطر في الشتاء, ويزهر الربيع أضعاف ما أزهر في الماضي بهما معا يصبح الطعام غير الطعام والماء غير الماء, كل شيء يتبدل من النقصان إلى الزيادة, من الجفاف إلى الارتواء.. من القليل إلى الكثير.
عندما يقول الناس هذه السنة سنة خير, لا يعرفون أن حبا عظيما ولد في هذه السنة, وإن الحب العظيم بإرادة الله يمنح الخير للبشر, ويمنح الأرض الماء, ويمنح الفقراء كساء يومهم, إنه المعجزة فلطالما تكررت عبر التاريخ بالقلة القليلة, فبين ملايين البشر في الصحراء لا نتذكر إلا جميل بثينة, وكثير عزة وقيس وليلى.. من قصص العشق النادرة..
ليس هذا عندنا, بل عند كل الأمم وعند كل أمة من هذه الأمم قصة حب عظيمة تشبه قصص حبنا التي لا نراها إلا كل مئة عام مرة.
مازالت المغنية تردد الآن: يمين الله أحبك حب ما له حدود, ومازالت الحبيبة تتمايل مع الأغنية تمايل السنابل مع الهواء العليل, مازالت تحرك يديها حركات أين منها تمايل الشجر في الغابات البعيدة, جسد كأنه من وله يرقص, بإيقاع بسيط وصعب في آن معا.
وما أن تقترب الأغنية من نهايتها تقترب العاشقة من حبيبها كأنها ستلتصق به, وتنحني نحوه وهو مشدوه بها, ثم تطبع قبلة على رؤوس أصابعها وترسلها له مع رائحتها الجميلة التي عبقت في المكان, رائحة ملابسها النقية, عطرها الممزوج بعرقها, رائحة جسدها الغريبة الموحية كما لو أنها رائحة من الجنة.
ويتلقى العاشق القبلة الهوائية كما لو أنه تلقى شيئا حقيقيا يغلق قبضته عليه لئلا يفلت منه, ولكن المعنى هو الذي يتألق, ورائحة الجسد الراقص, العجيني , المطاطي هي التي تملأ المكان والزمان.
يالهذا العشق
نتلفت إلى الماضي فنجد أن الحب أقوى من الملوك والحكام والرؤساء, الملك جورج الخامس وفي بريطانيا تخلى عن التاج من أجل امرأة أحبها, الرئيس الأميركي قصة حبه لمارلين مونرو ملأت مجلدات, كبار رفعهم الحب وآخرون أذلهم الحب, إنه النار المشتعلة تحرق وتدفىء في الوقت نفسه.
قال حكيم من خراسان: إن العشق يطلق اللسان العيي, ويفتح حيلة البليد والمختل, ويبعث في التنظيف وتحسين اللباس وتطييب المطعم, ويدعو إلى الحركة والذكاء وتشرف الهمة.
يقول الوشاء في الموشى: ليس يخلو أديب من هوى, ولا يعرى من ضنى لأن الهوى هو أول باب تفتق به الأذهان ويتفسخ به الجنان, وله سورة في القلب يحيا بها اللب, وقد يشجع الجبان, ويسخي البخيل ويطلق لسان العيي, ويقوي حزم العاجز ليأنس به الجليس, ويتمتع به الأنيس وهو أمر مطاع, وقائد متبع, وليس بأديب (من خرج من حد الهوى)
واستشهد الوشاء ببيتي الأحوص:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
فكن حجرا من يابس الصخر جلدا
هل العيش إلا ماتلذ وتشتهي
وإن لام فيه ذو الشأن وفنذا
والحب من شيم الكرام والنبلاء والفرسان, كما قال الشاعر محمود الوراق:
ألم تعلم فداك أبي وأمي
بأن الحب من شيم الكرام
وعلامات الهوى كما جاءت عن الوشاء: نحول الجسم وطول السقم, واصفرار اللون, وقلة النوم, وخشوع النظر وإدمان الفكر, وسرعة الدموع, وإظهار الخشوع, وكثرة الانين وإعلان الحنين وانسكاب العبرات وتتابع الزفرات.
روي فيما روي من التراث في هذا المجال, محاورة بين القلب والعين ثم الكبد, وكل يدلي بحججه وأفكاره.
قال القلب للعين:
أنت التي سقتني إلى موارد الهلكات, وأوقعتني في الحسرات, بمتابعتك اللحظات, ونزهت طرفك في تلك الرياض, وطلبت الشقاء من الحدق المراض, ومصداق قولي هذان البيتان:
نظر العيون هو الذي
جعل الهلاك إلى الفؤاد سبيلا
مازالت اللحظات تغزو قلبه
حتى تشحط بينهن قتيلا
قالت العين للقلب:
ظلمتني أولا وآخرا, وبؤت بإثمي باطنا وظاهرا, وما أنا إلا رسولك الداعي إليك.. ورائدك الدال عليك فأنت الملك المطاع, ونحن الجنود والاتباع, أركبتني في حاجتك خيل البريد, ثم أقبلت علي بالتنهيد والوعيد, لقد أرسلتني لصيد قد نصبت لك حباله وأشراكه واستدارت حولك فخاخه وشباكه, فغدوت أسيرا بعد أن كنت أميرا وأصبحت مملوكا بعدما كنت مليكا.
فلما سمعت الكبد تحاور العين والقلب قالت:
- أنتما على هلاكي تساعدتما, وعلى قتلي تعاونتما, أنا أتولى الحكم بينكما, أنتما في البلية شريكا عنان, كما أنكما في اللذة والمسرة فرسا رهان, فالعين تلتذ والقلب يتمنى ويشتهي فإن لم تدرككما عناية مقلب القلوب والأبصار وإلا فما لك من قرة ولا للقلب من قرار.
واختم بهذين البيتين:
لا تخف ما فعلت بك الأشواق
واشرح هواك فكلنا عشاق
واصبر على هجر الحبيب فربما
عاد الوصال وللهوى أخلاق.