من هذا الطوفان في النشر تبرز الكاتبة غنوة فضة فيما قدمته حتى الآن بدءا من روايتها الأولى (عصا موسى) إلى مجموعتها القصصية الجديدة الصادرة منذ أيام التي جاءت تحت عنوان (الهروب الأخير) قصص على مقام النهاوند..
تدور أحداث تلك المجموعة القصصية حول البيئة التي عاشت فيها الكاتبة وطغت على مجمل قصصها بتنوع أبطالها وظروفهم وأوضاعهم في الأوقات العصيبة القاسية التي يمر بها وطننا.
فمن بطلة قصتها «قمر مشبوه» الصبية الحالمة الطامحة «نجمية» التي حاكت ببراءتها عذوبة النهر وعذرية الحقول وتضاريس ضيعتها، إلى أحلامها التي انتهت بخيبة أمل تحت تأثير زيف المظاهر والتنكر للجذور والأنانية عند بعض الأدباء الذين يصلون لمرحلة الشهرة.. كل ذلك وأكثر.. عن الأصالة والانتماء وغيرها من المشاعر المتناقضة إضافة إلى الفوارق الطبقية التي ظهرت بشكل طفيف لدى طالبات جامعة قصتها تلك.. تلك الفوارق التي برزت واضحة في قصتها «آخر زفرات الحساسين» حيث أبدعت الكاتبة القصصية في إبراز المشاعر الانسانية التي نتجت عن تلك الفوارق.. فمن طفل بائع للحساسين وهو فقير معدم يكاد يموت جوعا وبردا، إلى الضفة الأخرى من الطبقة المخملية التي كادت أن تموت من تخمة البذخ بكافة أشكاله.. والتي برغم ذلك لم يخل الأمر من أناس لازالوا يحتفظون بإنسانيتهم كبطل قصتها تلك الصحفي ابراهيم.. الذي أظهرته «الانسان» بكل ماتحمله الكلمة من معنى ومع كل ذلك لم يستطع السيطرة على مشاعر الألم الذي أودت به إلى ارتكاب محرقة.. وكأنه يحرق بها آلام جميع المظلومين في ذلك المجتمع المزيف حسب رؤيته..
ولم تنس الكاتبة أن تعرج على ما أفرزته الازمة التي يمر بها بلدنا الحبيب من مآسٍ على شريحة كبيرة من أبناء المجتمع.. حيث بينت ذلك في قصتها «على مقام النهاوند» التي عرجت بها على الحب والحرب في آن معا.. الحب الذي تعدى حدود الطائفية البغيضة إلى الحب السامي الذي وحد الأديان في لحظة ما.. لكنه لم يسلم من حقد من لايريد ان نعيش بسلام.. حيث أشارت الى ظاهرة الخطف التي راح ضحيتها الكثير من شرائح مختلفة من الشباب والاطفال وكيف أننا نعيش في بلد يموت أحدنا ليحيا الآخر.. إلى روايتها «بنات باريس» التي أظهرت من خلالها اختلاف البيئة والعادات والتقاليد حسب كل مدينة أو طائفة.. ومع ذلك تجلت مشاعر الانسانية بأجمل صورها عندما يكتشف الواحد منا كيف أن كل تلك التفرقة تندثر تحت تأثير لحظة صدق وألم ونصبح كلا واحدا يوحدنا انتماؤنا لهذا البلد الصامد.. حب الانتماء وصدق المشاعر والتناقضات التي زادت عمقها الحرب اللعينة.. بكل صورها والانسانية والواقع السوري بكل أطيافه والمشاعر بكل اختلاجاتها.. كل ذلك طغى على قصص الكاتبة غنوة فضة وقد خصت مدينتها اللاذقية بجزء كبير منها بل بمجملها.. وانتهت معظم قصصها بمشاعر متخمة تكاد تمس شغاف القلب سواء من الألم أو الفرح أو غير ذلك.. ولكن القاسم المشترك بين قصصها هو محبة الناس لبعضهم البعض والأصالة والانتماء المتجذر رغم المحن التي عصفت بالبلاد والعباد ومحاولة البعض التفريق بين مكونات المجتمع السوري.
المجموعة تعكس الواقع بمرارة وجرأة,والقاصة استخدمت الجمل القصيرة المتلاحقة وهذا الأسلوب يشد القارئ ويبعد الملل عنه في متابعة الأحداث، أما اللغة فهي بسيطة وقريبة من بيئة أبطال قصصها وهذا ما يميزها ويجعلها محببة لقرائها.