وحيث إن ثمة خيط رفيع جدا يفصل بين الجرأة والمصارحة والمكاشفة والمجابهة وبين الوقاحة والسلاطة فإن كل من يحاول أن يسلك المسلك الوعر للجرأة لا بد أن يشعر أنه يسير في حقل شاسع من الألغام وأنه لن ينجو من مطباته ومنعطفاته المباغتة حتى لو استعار رشاقة راقص الباليه, فالأجواء موبوءة ومسممة ليس بفعل الاحتباس الحراري بل بفعل الاحتباس اللا أخلاقي.
والتخوف من ممارسة الجرأة الكاملة ناجم عن حساسية وحراجة الأوضاع على الصعيد الدولي والاقليمي والمحلي بما تحمله من اشكاليات وتناقضات في الإطارات الايديولوجية والسياسية والدينية وحتى الوطنية وناجم أيضا عن المواقف المتباينة التي نشأت جراء الهوة الواسعة التي باتت تفصل بين الشعوب وبين حكامها حتى في أعرق وأعتى البلدان الديمقراطية.
لا بد من الإقرار بأننا بتنا نعيش في عالم مشوه بالكامل لم يعد له علاقة بالقيم والأخلاق والمنطق والسبب الرئيسي في ذلك هو القدرة غير المحدودة للكيان الصهيوني على السباحة عكس التيار وعلى تزوير الوقائع وقلب الحقائق عبر اخضاع مختلف القوى وبشتى الوسائل المتاحة وبشكل غير أخلاقي لدعمه وتأييده.
الكيان الصهيوني الذي قام بشكل كامل على الارهاب والذي استلم مفاصل الحكم فيه أعتى المجرمين والارهابيين والذي قام على تبرعات شعارها الرئيسي (ادفع دولاراً تقتل عربياً) بات بكل وقاحة يتحدث عن الارهاب وعن مكافحة الارهاب وعن تضييق الخناق على الارهاب بتجفيف مختلف الموارد وبحصار الشعب الفلسطيني ومحاولة تهجيره عبر عزله وتضييق الخناق عليه ببناء جدار الفصل العنصري بعد أن سرق أرضه وشتته في أصقاع الأرض وأودع صفوة مناضليه في السجون.
هل يعقل أن تمارس غالبية العرب الأشاوس النشامى كل هذا الخنوع وكل هذا الاخصاء الذاتي للكرامة والقوة والمنعة والتبرؤ من تقديم العون والسلاح للمقاومة الشريفة? وهل يمكن أن يصل الهوان ببعضهم الى حد اللجوء بنوع من التوسل الى مجلس الأمن الذي خذل كافة قضايانا من أجل إقرار المحكمة الدولية?
هل يعقل أن يتعرض المظفر حسن نصر الله الذي دوخ الكيان الصهيوني ومرغ وجهه في التراب الى هذا الكلام المنحط والبذيء من قبل صبيان السياسة وغلمانها في لبنان على مرأى ومسمع من هؤلاء النشامى الأماجد الذين لا ينامون على ضيم? وكيف تبخرت غالبية كل ذلك اليسار الطويل العريض الذي فلقنا بشعاراته وبممارساته? وكيف يمكن أن يعلو صوت فوق صوت مناهضة الحلف الأميركي-الصهيوني?
مهما بلغ حجم تناقضاتنا الداخلية ومهما تراكمت الأخطاء ومهما تصاعد مقدار تقززنا من الفساد والمحسوبية وسوء استخدام السلطة فإننا يجب ألا نفقد البوصلة التي تشير بشكل دائم ومستمر الى الحلف الأميركي-الصهيوني كعدو استراتيجي لا بد من مناهضته بشكل متواصل حتى لو كنا داخل السجون فأول أبجديات الاستراتيجية أن التناقضات الصغيرة تتضاءل أمام التناقضات الكبيرة ولعل من أبرز أسباب اخفاقاتنا هو قلب هذه المقولة وإنه لأمر مؤسف ومشين أنه رغم كل تلك الفظائع والكوارث التي اجترحتها أميركا بحق العرب والمسلمين وبحق نفسها فإنه ما زال ثمة من يستخدم عبارة تحرير العراق أو عبارة قلعة الديمقراطية.
لا أحد يعرف الأسباب التي دفعت الى بعث مبادرة السلام العربية من مرقدها لكن لا بد من القول: إن هذا ليس الوقت المناسب لبعثها ونشرها لسبب بسيط يتلخص بأن اسرائيل لا تريد السلام فايهود أولمرت لا يحظى بأكثر من ثلاثة بالمئة من التأييد وهو في طريقه المحتوم الى مقصلة الاستقالة وجاك شيراك سيغادر قصر الاليزيه بعد نيف وشهر لينشغل بعملية تهربه من السيف المسلط للمحكمة التي تلاحقه بتهم الفساد وعلى الأخص بعد استباحته لفرنسا ولأوسمتها كرمى لعلاقته المشبوهة مع <<المال >>, وطوني بلير سيرحل قريبا هو الآخر ليتقمص شخصية انطوني ايدن الذي أمضى بقية حياته في الهوان بعد أن قاد العدوان الثلاثي المشين على مصر الشقيقة عام ,1956 أما جورج بوش فسينكفىء على نفسه لاجترار خيباته في أفغانستان والعراق والقرن الافريقي ولبنان ومناطق عديدة أخرى, اللهم إذا لم تجر عملية كف يده واقصائه عن البيت الأبيض قبل انتهاء ولايته العام القادم.
ربما أن الموضوع الأبرز هو هذه الهجمة الدبلوماسية الأميركية اللافتة على دمشق وفي رأسها زيارة نانسي بيلوسي والتي شكلت شرخا داخل الادارات السياسية الأميركية ومادة خصبة لمختلف وسائل الاعلام ولسوء الحظ فإن الأحد الماضي كان يوم عطلة في صحيفة الثورة الأمر الذي حرمني من فرصة التعامل مع هذا الموضوع في الوقت المناسب بالاستفاضة اللائقة وقد سمحت لنفسي اليوم بالاطالة كنوع من التعويض.
في رأيي الشخصي إن الهجمة الدبلوماسية الأميركية كانت أمرا طبيعيا ونوعا من تحصيل حاصل على مبدأ لا يصح إلا الصحيح, فبالاضافة الى الثقل الاقليمي المتميز لسورية والذي أشرت إليه في العديد من المقالات التي أكدت فيها على أن هذا الثقل سيلعب دورا مميزا في قلب موازين القوى في المنطقة فثمة شيء مهم هو الإهاب التاريخي لسورية وشيء آخر لا بد من الاعتراف به خارج إطار المزاودات الرخيصة والاتهام بالممالأة والمداجاة هو تمسك الرئيس بشار الأسد بالمبادىء والثوابت الوطنية والقومية والحنكة السياسية التي أبداها طوال فترة تسلمه لسدة الرئاسة والتي اعترف له بها الشرفاء والمنصفون.
ما يهم الوطنيين الشرفاء, الأحرار, الغيارى هو أن يبقى الزورق السوري الذي يحملنا جميعا نحن وأبناءنا وأحفادنا وأحفاد أحفادنا مبحرا في لجة هذه الأمواج العاتية بنوع من الأمان نحو مستقبل أفضل للجميع.
خلال الدراسات التي أجريتها أثناء عملي على موسوعة الشعر العربي ركزت على موضوع السرقات والاقتباسات وتوارد الخواطر وكل ماله علاقة بشيء اسمه( التناص) وكان أبرز ما لفت انتباهي هو توارد الخواطر بين المتنبي وبين ابن سينا الذي مات بعده بسبعة عقود.
فالمعنى الذي قصده المتنبي ببيته الشهير :
( إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم)
صاغه ابن سينا حين اضطر قسراً إلى مغادرة بخارى بعبارة قالها مودعاً أميرها: أنا لم أرحل لكن بخارى هي التي رحلت.
المهم أن جورج بوش الذي بذل قصارى جهده لفرض عزلة على سورية بات يعيش عزلة لم يعشها رئيس أميركي قبله,والسبب لا يعود لسورية وحدها طبعاً لكن الصمود تجاه الضغوطات والممانعة الشرسة التي أبدتها سورية ساهمت في خلق هذه العزلة وعليه يجب الاستفادة إلى أبعد الحدود من هذه الواقعة.
كتبت ست مقالات حول المسألة الديمقراطية والمسألة الدستورية لأننا نواجه استحقاقين دستوريين في وقت شبه متزامن فالدستور هو عماد الدولة وأمره منوط بين الرئاسة ومجلس الشعب, ولابد من الإقرار بأن الدستور هو مقدس في روحه وليس مقدساً في حرفيات نصوصه القابلة للتعديل بموجب جدلية الحياة وتغير الظروف حسب تواتر المستجدات وأنه لابد من الإقرار أيضاً بأن الدستور ليس نصوصاً جامدة لأن غايته القصوى خدمة الشعب لا أن يكون الشعب في خدمته.
وبما أن الفساد هو ثقافة قائمة بحد ذاتها فلا بد من مواجهتها بثقافة مضادة, ولعل من أبرز هذه الثقافة المضادة هو كره وتقزز الشعب من البذخ والإسراف في عملية الدعاية الانتخابية في هذا الزمن الذي يعز فيه تأمين الحاجات الأساسية.
ومهما كان شكل مجلس الشعب القادم فإنه لا بد من العمل الجاد على تطوير تجربتنا الديمقراطية عبر ممارسة الثقافة المضادة بمعنى أن يكون أعضاء مجلس الشعب أنفسهم تحت المجهر, وهذا لا يتم إلا عبر بث جلسات مجلس الشعب عبر الشاشات لكشف المستور ممن وجدوا طريقهم خلسة وبالمال الى مجلس الشعب.
ولا بد من الإقرار بأن أي برلمان لا يمكن أن يكون صحياً وفاعلاً من دون وجود مناقشة فاعلة داخله, فآن لمشهد رفع أيدي الموافقين بشكل آلي حسب المصطلح الانكليزي yes men أن يتوقف, وأن يشعر هذا الصنف بأن ثمة آليات قادرة على مراقبة أدائهم عبر النقل المباشر لوقائع الجلسات إذاعيا وتلفزيونيا وأن ثمة آليات دستورية قادرة على اعفائهم ان لم يثبتوا جدارة فلن ننتظر أربع سنوات لاستبدالهم.
لن أدخل في تعقيدات العلاقة بين الرئاسة ومجلس الشعب ولا بين الفروق بين المراسيم والقوانين لكنني أوكد أن ثمة العديد العديد من المراسيم التي أصدرها الرئيس بشار الأسد كان لها أثر كبير على المناحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لم يلحظها الذين توقفت عقارب ساعاتهم عند أحداث جرت قبل ثلاثين سنة والتي ليس للرئيس بشار ناقة فيها ولا جمل.
وعلى سبيل المثال فلقد اطلعت صدفة على مرسوم إعادة فعاليات الكشافة السورية الى جانب منظمة الطلائع ولقد سعدت أن حفيدي قد شارك في المهرجان الكشفي الذي جرى أمس من سوق الحميدية الى الجامع الأموي وسعدت أن الكشافة السورية ستجري عرضا في ميسلون بمناسبة عيد الجلاء الذي يعتبر اليوم الوطني وقدس الأقداس وعيد الأعياد والذي سأشارك فيه بكل فخر, وبإمكان كل من له عينين أن يرى أن الرئيس بشار يسير في هذا الاتجاه من دون أن يخشى في الله وفي الحق لومة لائم.
burhanboukhari@gmail.com