| قراءة أولية في الاستراتيجية السورية (15) جدلية الداخل والخارج معاً على الطريق ورغم أن كلمة شفاف بالمعنى المادي للكلمة كمكافىء لكلمة Transparent دخلت إلى العربية في القرن الماضي بعد استخدام الورق الشفاف في الرسم إلا أن كلمة شفافية بالمعنى السياسي كمكافىء لكلمة Transparcncy ظلت غير واضحة المعالم وتستخدم بشكل عشوائي. تناول الرئيس بشار الأسد مصطلح الشفافية بشفافية عالية فلقد وردت هذه الكلمة أكثر من عشرين مرة في أدبياته, وسأكتفي باقتباس مقطع مطول من خطاب القسم نظراً للدقة والشفافية التي اتسم بها في معالجة مسألة الشفافية حيث قال سيادته: »وهذا المصطلح أي الشفافية طرح بشكل كثير التواتر مؤخراً في حوارات ومقابلات وفي أماكن متعددة أخرى, فكان البعض يطالب باقتصاد شفاف والبعض الآخر بإعلام شفاف وغيرهم بذهنية شفافة في المجالات الأخرى, ولا شك في أهمية ذلك وأنا مع هذا الطرح لكن من خلال فهم واضح لمضمون المصطلح وللأرضية التي يمكن أن يبنى عليها, فالشفافية قبل أن تكون حالة اقتصادية أو سياسية أو إدارية وما إلى ذلك هي حالة ثقافة وقيم وتقاليد اجتماعية, وهذا يفرض سؤالاً ومطلباً في الوقت نفسه يجب أن نطرحه على أنفسنا قبل طرحه على الآخرين. هل أتعامل بشفافية مع نفسي أولاً ومع أسرتي ثانياً ومع محيطي القريب والبعيد والدولة والوطن ثالثاً? فمن يستطيع أن يعطي جواباً بالايجاب يعرف معنى الشفافية وهو من يستطيع أن يقدر أبعادها ويمارسها في أي موقع كان, فكيف نطلب من إنسان مثلا لا يصدق في حياته الشخصية ومع أقرب الناس إليه أن يكون مسؤولاً صادقا تجاه مسؤوليته وتجاه الشعب? وإذا كان غير واضح في طروحاته فكيف نطلب منه أن يكون شفافاً عندما يتولى منصباً ما? فإذا أردنا أن نعالج مشكلة ما فيجب أن نتناولها من بداياتها وليس من نهاياتها وأن نعالج السبب قبل النتائج, وهذا يحتاج إلى مواجهة جريئة مع أنفسنا ومع مجتمعنا وهي مواجهة حوارية نتحدث فيها بصراحة عن نقاط ضعفنا وعن بعض العادات والتقاليد والمفاهيم التي أضحت عائقاً حقيقياً في طريق أي تقدم«. السؤال الذي يطرح نفسه بعد قراءة هذا المقطع هو: ما الذي يمكن أن نضيفه نحن كمفكرين وإعلاميين إلى هذا الكلام الواضح البسيط الجريء الشفاف? وأين هي بالتالي مواطن الخلل القائم بين المبدأ والتطبيق وبين التنظير والممارسة ما دامت الأهداف واضحة والرغبة قائمة?. حين شرعت في وضع معجم أدبيات الرئيس بشار الأسد كان هدفي الرئيسي هو تحليل بنية الخطاب السياسي لرئيس البلاد الذي بيده القرار السياسي الأول في الحرب والسلام وفي تطوير المجتمع وعصرنته وفي مكافحة مختلف أوجه وأشكال الفساد. ولقد عملت على هذا المعجم لعدة سنوات بشكل متعثر مع ورشة عمل لا يتعدى قوامها عشرة أشخاص إلى أن جاءني دعم مادي من صديق وطني نبيل ما أعطى المشروع دفعاً قوياً فشارف العمل بفضله على الانتهاء وهو يمر اليوم بما يعرف باللمسات الأخيرة التي من المفترض أن تكون بالغة الدقة, وعلى الأخص أن المعجم يعالج نحو أربعمئة كلمة على مساحة ما يقرب من عشرة آلاف صفحة, تظهر أوجه الجدل في بنية أدبيات سيادته وفي مجمل التطورات التي طرأت على بنية خطابه السياسي. ورغم أن مجلة الأزمنة الغراء أفردت له عدة صفحات من ضمن ملحق خاص أعدته حول المعجم التاريخي للغة العربية ونشرت الشواهد الكاملة لكلمة »دستور« في أدبيات سيادته, ورغم أن صحيفة الثورة الغراء نشرت على مدى أسبوع كامل شواهد كلمة »ديمقراطية« في أدبيات سيادته, فإن أحداً ممن يهمهم الأمر في المؤسسات البحثية والمعلوماتية والمجمعية والأكاديمية لم يكلف نفسه عناء رفع سماعة الهاتف للسؤال عن هذا المشروع, وهذه المسألة نفسها تصلح كمدخل لمعالجة مسألة الجدلية ومسألة الشفافية من جذورهما. وانطلاقا من مفهوم الأسباب والنتائج الذي ركز عليه سيادته أقول: إن حالة البؤس التي تعيشها المؤسسات التي ذكرتها هي نوع من تحصيل حاصل لأسباب بات يعرفها الجميع من غياب استراتيجيات عملية وواقعية صلبة ومن استشراء الارتجال والتخبط, ومن تبعثر المحاسيب غير المناسبين في الأماكن غير المناسبة. المطلوب ونحن في أعتاب الولاية الدستورية الثانية للرئيس بشار الأسد السعي الحقيقي والحثيث لتحويل استراتيجياته وطموحاته إلى واقع معاش قدر المستطاع عبر مجابهة الآليات المعطلة التي لا نعرف عنها شيئا حقيقيا خارج إطار المحسوبية والاستزلام. وتبقى جدلية الداخل والخارج قائمة ومبنية على أن الخارج قد أخذ كثيرا من حساب الداخل, فإنه من شبه المستحيل أن نستمر في الحفاظ على ثوابتنا الوطنية والقومية ضمن داخل يعاني من الفوضى والمحسوبية والفساد. إبان استلام الرئيس بشار الأسد لولايته الدستورية الأولى كتبت سلسلة مقالات أكدت فيها على حجم المخاطر التي ستمر بها سورية وذلك لسببين الأول: معرفتي بأدبيات سيادته منذ عام 1994 ومتابعتي عن كثب لمنظومته الفكرية ولخطابه السياسي الجدلي أما الثاني: فهو المزاج الأميركي العام الذي كان يهدف إلى تقزيم سورية بحكم كونها نتوءا مستعصياً على المبرد الأميركي- الإسرائيلي. وكان أن وجهت إلى الرئيس جورج بوش رسالة مفتوحة في صحيفة تشرين بتاريخ 27/5/2001 أي قبل حوالى ستة أشهر من أحداث 11 أيلول قلت في آخرها: »إن الرئيس بشار الأسد دقيق جداً في استخدام مفرداته وتعابيره, وهو يكره جميع أنواع اللف والدوران ومختلف أنواع »الماكياجات« التي تتسم بها اللغة الدبلوماسية المنمقة, ورغم أنه في عز الشباب إلا أنه اختزل تجارب كثيرة أمدته بحكمة الشيوخ وجعلته يعبر بدقة متناهية عن نبض الشارع العربي. ورغم أنه بالغ التواضع والتهذيب إلا أنه صلب إلى درجة لا يأبه معها بأي ضغوطات أو حرتقات تمارس على حساب المبادىء والحقيقة, وأرجو ألا تقوم الظروف التي تثبت صحة هذه الوقائع بشكل عملي«. ورغم أن سورية عانت اقتصادياً من مجموعة الحصارات التي فرضت جوراً عليها ورغم أنها عانت اقتصاديا أيضا جراء موقفها القومي باستضافة أكثر من مليون أخ عراقي, لكن الخلل بين الخارج والداخل يجب ألا يستمر طويلاً, ولا بد من أن يكون الشعار الشعبي للولاية الدستورية الثانية مزيداً مزيداً من الاهتمام بالداخل دون المساس بالخارج, ومزيداً من تجيير الخارج إلى الداخل, فالفقر يبقى العدو الألد.
|
|