| استراحة حربية معاً على الطريق وحقيقة الأمر أنني بت أتابع الأخبار والتحليلات والحوارات والسجالات والمشادات والخناقات والتأويلات والفبركات والتفاهات والسفاهات بنوع من التقزز والقرف, وأتناولها كما يتناول أحدنا زيت الخروع أو العلقم, وأعتقد أن الغالبية العظمى من العرب والمسلمين تشاطرني هذا الشعور. واضح أن عنوان هذا المقال غير مألوف فالصيغة الشائعة هي (استراحة المحارب) لكن ضمن هذه المناخات المشحونة بنذر الحرب لا بد من أن يأخذ أي كاتب استراحة من انشغالاته الخاصة مهما بلغت أهميتها ليتحدث عن الحرب واحتمالاتها, وهذا ما فعلته اليوم, لأنني سأعود في المقال القادم إلى مهنة الحلاقة وقص الشعر لأنها باتت مسألة مصيرية بالنسبة لي, وعلى الأخص أن دمشق ستكون عاصمة الثقافة العام القادم, حيث بدأت عملية تشذيب مظهرها الخارجي وإضافة الماكياجات والمساحيق لتبدو جديرة باللقب. لا خلاف على أن الحرب هي من أبشع وأقذر ما مارسته البشرية, ولعل من أبلغ ما قيل عنها الأبيات التي أوردها زهير بن أبي سلمى في معلقته: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم متى تبعثوها تبعثوها ذميمة وتضر إذا ضريتموها فتضرم فتعرككم عرك الرحى بثفالها وتلقح كشافاً ثم تحمل فتتئم فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم فتغلل لكم ما لا تغل لأهلها قرى بالعراق من قفيز ودرهم ومن عجائب الأمور وغريب المصادفات أن يرد اسم العراق وحده في هذا السياق الشعري المتلبد المتجهم كنوع من المصادفة المحضة أو النبوءة والكهانة الغامضة والملتبسة. وبصرف النظر عن مختلف الدراسات والتحليلات والقراءات والاستقراءات ففي رأيي الشخصي أن الحرب قادمة لا محالة في الخريف القادم أو الشتاء القادم أو الربيع القادم أو الصيف القادم أو في الخريف ما بعد القادم وسأحاول أن أشرح وجهة نظري بأبسط شكل ممكن. ما من شخص في اليابان إلا ويسكنه هاجس الزلازل بشكل يومي وما من شخص في خليج المكسيك وولاية فلوريدا إلا ويسكنه هاجس الأعاصير, وهذا يعني نوعاً من حتمية قوانين الطبيعة التي تفرض وجود مثل هذه الهواجس, وصراعنا مع الكيان الصهيوني يدخل بشكل ما ضمن هذا الإطار الحتمي. أحد الأسباب الرئيسية لقيام الهزات الأرضية هو احتكاك صحيفتين قاريتين, فحسب قانون انزياح القارات فإن صفيحة إحدى القارات تحتك بصفيحة قارة أخرى فتحدث ضغوط هائلة بين مجموع كتلة القارتين تؤدي بالنتيجة إلى نوع من التفريغ لهذه الضغوط الهائلة عبر هزة أرضية ترتبط درجتها بدرجة الضغط والاحتقان. وإن ما يحدث بيننا وبين الكيان الصهيوني هو تماماً احتكاك صفيحتين قاريتين أو مشروعين متناقضين بالكامل, وعليه فإن الهزات الأرضية ستستمر والحروب ستشتعل. وطالما أن الكيان الصهيوني ما زال سادراً في غيه وفي أوهامه التوراتية, وطالما أنه عازم على طرد ما تبقى من الفلسطينيين بمن فيهم عرب عام 1948 وفق مبدأ إسرائيل بيتنا عبر مجموعة من عمليات (الترانسفير) المتتابعة, وطالما أنه مصرّ على تضييق الخناق على الشعب الفلسطيني وعلى معاقبته بشكل جماعي, وطالما أنه يحول المساجد إلى مقاصف سياحية, وطالما أنه يمنع الأذان والسحور, وطالما أنه عازم على هدم المسجد الأقصى لإقامة هيكل سليمان المزعوم فوق أنقاضه فإن الصفيحة العربية - الإسلامية والصفيحة الصهيونية التوراتية ستشهدان مزيداً من الاحتكاك والتصادم والاحتقان, وربما ستشكل باكستان البعيدة آلاف الكيلومترات عن فلسطين عبر صراعاتها الداخلية الحالية إحدى قوى الدفع للصفيحة العربية - الإسلامية. وتجنباً لمزيد من الخوض في المجردات سأتعرض بصراحة وشفافية كاملة إلى بعض الوقائع, وأعتذر سلفاً للقارئ العزيز عن سردي لبعض الجزئيات المملة, لكنني أعتقد أنها ستتحول بعد نشرها إلى وثائق, مهما بلغت ضآلتها, وربما سيستغرب القارئ العزيز حين سأنشر قريباً تفاصيل علاقة غير مباشرة بين أسامة بن لادن وبيني. في 16/10/,1999 أي قبل أحداث الحادي عشر من أيلول بحوالي السنتين كتبت مقالاً في صحيفة تشرين تحت عنوان (إسلامو فوبيا), وكان هذا المصطلح غير معروف أو متداول, تنبأت فيه بحتمية حدوث صدام بين أمريكا وحلفائها وبين العالمين العربي والإسلامي وحذرت فيه من مخاطر ما يمكن أن ترتكبه طالبان والقاعدة من حماقات قد تؤدي إلى بدء هذا الصراع. في أواسط عام 2001 وفي اليوم التالي من توجيهي رسالة مفتوحة لاذعة إلى الرئيس جورج بوش تلقيت دعوة للغداء في منزل السفير الأمريكي في دمشق آنذاك رايان كروكر والذي يشغل اليوم منصب سفير أمريكا في بغداد, فقلت للموظف العربي الذي حمل بطاقة الدعوة هل أنت متأكد من الإصرار على الدعوة, وهل قرأ السفير رسالتي المنشورة? فقال لي لقد قرأها وهو مصر على حضورك. كان حفل الغداء يوم الثلاثاء أي بعد رسالتي المفتوحة للرئيس بوش بيومين, وكان الغداء على شرف الشخصية الأمريكية الإسلامية البارزة عبد الرحمن العمودي الذي يقبع الآن في السجون الأمريكية, فك الله أسره, وكان في الغداء أربعة دكاترة يمثلون نخبة المثقفين السوريين, وقد ذكرت أسماء هذه الشخصيات وتفاصيل ذلك الغداء في مقال في صحيفة الثورة. ولقد فوجئنا جميعاً بقدوم دافيد ساترفيلد من بيروت الذي كان سفيراً لأمريكا فيها والذي قال أنا مهتم بهذا الحوار وسأغادر إلى بيروت بعد ساعتين. وبعد سجالات طويلة بين عبد الرحمن العمودي وبيني استمرت لأكثر من ساعة قلت له لا تدافع ولا تعول يا صديقي على أمريكا فثمة مخططات سوبر استراتيجية هي التي تتحكم بالوقائع وأنت نفسك لست في منأى عن الخطر. وقبل أن يغادر دافيد ساترفيلد إلى بيروت انتحى بي جانباً وقال لي أرجو حين تأتي إلى بيروت أن تتصل بي لنكمل هذا الحوار المهم والخطير, فأجبته قائلاً: شريطة أن نبقى محترمين لهذا التناقض والتضاد, وقد علمت من بعض الأصدقاء أنه ذكرني بالخير وبالاسم في لقاء أجرته معه فضائية العربية قبل حوالي الستة أشهر. ولقد تطورت العلاقات بين رايان كروكر وبيني إلى مستوى حضاري إنساني راق, أما المفصل الحاسم بينه وبيني فكان أثناء محاضرة ألقاها في دمشق جيمس زغبي, الشخصية الأمريكية البارزة المتحدرة من أصل لبناني. وعقب المحاضرة أصر رايان كروكر شخصياً على أن أعقب على المحاضرة فقلت لجيمس زغبي: اسمح لي يا صديقي أن أقول إن أطروحتك مضعضعة وغير متماسكة في الأصل, الصراع ليس عربياً - إسرائيلياً بل هو صراع إسلامي - صهيوني, فما كان منه إلا أن أجاب ما علاقتنا بأناس يصلون ويصومون ويقومون بشعائرهم الدينية? الصراع سيبقى محصوراً بين العرب والإسرائيليين. وفي اليوم التالي أقيم حفل عشاء على شرف جيمس زغبي في منزل الصديقة ) إيفلين إيرلي ) مديرة المركز الثقافي الأمريكي وتواقت ذلك الحفل مع استباحة شارون للمسجد الأقصى وبدء الانتفاضة, فبادرني جيمس قائلاً إنني أعتذر عما قلته في الأمس ويبدو أنك على صواب ولقد اعتذرت في محاضرة ألقيتها في جامعة دمشق هذا الصباح عما قلته في محاضرتي دون أن أذكر اسمك. وبعد أن مر أكثر من نصف ساعة على موعد الحفل ولم يحضر أكثر من ربع المدعوين قلت لجيمس ابدؤوا الحفل لأن أحداً لن يأتي, وكان يمكن ألا أحضر أنا شخصياً, فقال لي أرجو أن تعلم السفير بذلك. وبعد أن أعلمت رايان كروكر بذلك افتتح العشاء وأمضينا ثلاثتنا أكثر من ساعتين في نقاشات إشكالية صاخبة, وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول كان أمراً طبيعياً أن تنقطع مختلف السبل بين الأمريكيين وبيني رغم العلاقات الحضارية الدافئة, إذ تبقى السياسة فوق مختلف العلاقات ويبقى الوطن وقضاياه فوق أي اعتبار. ما أود الوصول إليه تحديداً أن رايان كروكر الذي انتقل سفيراً لأمريكا في دمشق ليصبح سفيراً في راول بندي في باكستان ثم سفيراً في بغداد يعرف كثيراً من الحقائق على أرض الواقع لكنه ليس من صناع القرار. أما بالنسبة للحرب بين إيران والحلف الأمريكي - الإسرائيلي أو الحرب بين سورية والكيان الصهيوني فأقول إنه عندما يولد إعصار يبدأ الاختصاصيون برصده ومتابعته وإطلاق اسم عليه, ثم يتابعون تطوراته, ومعروف أنه حسب مقياس الأعاصير فإن الدرجة الخامسة هي الأعلى والأشد دماراً, ومعروف أيضاً أن الإعصار يتطور بمعنى أنه ينتقل من درجة إلى أخرى, فإما أن يهمد أو يتصاعد, وباعتقادي أن إعصاراً من الدرجة الأولى في المنطقة في صدام بين سورية وبين الكيان الصهيوني مثلاً سيتحول فوراً إلى إعصار من الدرجة العاشرة والذي لا تعرفه مقاييس الأعاصير. وآخر ما أود قوله في هذا المجال أن الكيان الصهيوني لم ينتصر في بعض الحروب الماضية بفضل قواه التي حقرها واستهزأ بها حزب الله بل بسبب تفرق العرب والمسلمين وتشرذمهم, وأن احتمالات انتصار سورية وحيدة على الكيان الصهيوني لن يكون بفضل قواها الذاتية فقط بل بسبب التخمة العسكرية التفجيرية التي يعاني منها هذا الكيان. معروف أن مفاعل ديمونة يعاني من تصدعات بفعل التآكل الزمني بعد مرور أكثر من أربعة عقود على إنشائه فماذا لو تهاطلت عليه مئات بل آلاف الصواريخ. بودي أن تجري القيادة العسكرية الأمريكية تجارب علنية على تفجير دبابات أبرامز وهي خالية من الوقود والذخيرة, وأن يجري الكيان الصهيوني التجارب نفسها على دبابات ميركافا, وسيكتشف الجميع أن لا شيء يحدث مع المعدن, لكن هذه الدبابات تتناثر أشلاء بسبب وقودها وذخائرها, وهذه نقطة ضعف في الكيان الصهيوني. المفجع والمؤذي والمخزي أننا كلما دافعنا عن مبادئنا ومواقفنا وثوابتنا اتهمنا بممالأة النظام ودعمه, ورغم كل هذه المفاهيم المشوهة والمريضة تبقى كبدي الحرى على بلدي المناضل المكافح المنافح الممانع الصامد الصابر المحتسب الذي ما زال قراره غير مرهون للخارج والذي ما زال قرار الحرب والسلم بيديه, ويبقى قلبي مع الرئيس بشار الأسد الذي يقود السفينة وسط لجج متلاطمة وأمواج عاتية وأعاصير مدمرة.
|
|