وحرم بذلك صاحب الدار من بيته ليعطي الدار والأرض لأجنبي لا علاقة له بهما إلا زعماً وخيالاً وكيدية سياسية فرضت التنفيذ بالقوة والإرهاب ووافقت الجمعية العمومية للأمم المتحدة على الاغتصاب في ظرف دولي معين تلا الحرب العالمية الثانية حيث حكم قرار المنتصرين فيها العلاقات الدولية، ولهذا اعتمد القرار هذا بأكثرية 33 صوتاً من أصل 56 وعارضه 13 وامتنع عن التصويت 10 وكان هذا القرار هو السند القانوني الذي أعطى (شرعية دولية) لقيام الكيان المغتصب تحت اسم (إسرائيل).
وبعد سبعين عاماً ونيف صوتت الجمعية العمومية ذاتها بعد أن ازداد عديد الأعضاء فيها، صوتت على قرار يشكل علامة فارقة في مسار وجود إسرائيل وسعيها لمزيد من ابتلاع أرض فلسطين، صوتت لكسر قرار أميركي يعلن اعتراف أميركا بالقدس كلها عاصمة لدولة (إسرائيل)، إعلان جاء مغايراً لنص القرار 181 ولمضمون أكثر من 12 قراراً دولياً يتعلق بالقدس وفلسطين وكلها تلزم إسرائيل التي احتلت القسم الغربي من القدس بعد القرار 181 ثم الجزء الشرقي منها في العام 1967، تلزمها باحترام الحالة الخاصة للقدس وعدم المس بها، وبالتالي اعتبار ضمها واعتبار إعلانها عاصمة، باطلاً بطلاناً مطلقاً لمخالفته للشرعية الدولية التي تمثلها أو ترعاها الأمم المتحدة رغم كل الملاحظات والتحفظات التي نسجلها على سلوك هذه المنظمة.
لقد جاء التصويت الأخير وظروفه ونتائجه معبراً وبالغ الدلالة إن من حيث البيئة الدولية والأميركية التي تم فيها أو من حيث ما يوحي به ويتمخض عنه، إذ إن أميركا وعلى لسان رئيسها ترامب نفسه مرتكب العدوان على القدس، هددت وتوعدت الدول التي توافق على القرار وتتحدى القرار الأميركي هددتها بالانتقام والمعاقبة، ومع هذا اعتمد القرار بأكثرية 128 صوتاً ومعارضة 9 دول فيهم أميركا وإسرائيل ودول هامشية تقتات بالمال الأميركي وامتناع 35 دولة رأت ألا تغضب أميركا ولا تغضب الحق فامتنعت عن التصويت والامتناع لا يحتسب. فما الدلالات والتداعيات لهذا القرار؟.
في البدء حاول الخاسر أو اعلامه أو حتى البعض من الفريق الرابح، أن يخفف من أهمية القرار ويدعي بأنه قرار غير ملزم وهنا نرد ببساطة أن قرار إنشاء إسرائيل ذاتها هو من ذات الطبيعة القانونية والقوة ذاتها كما بينّا أعلاه، ولذلك لا نرى موجباً لمناقشة هذه النقطة ونكتفي بالقول إن القرار يعكس موقفاً دولياً جامعاً ويعكس بدقة موقف ما يسمى (المجتمع الدولي) الذي طالما تشدقت أميركا وطالبت باحترام قراراته عندما تكون قراراته صيغت بإملاء منها، إنه قرار مهم إذن خاصة إذا علمنا أن الدول التي وافقت على القرار تمثل 5.5 مليارات من سكان المعمورة الـ 6.5، وأن الدول التي عارضت لا يصل حجمها إلى 300 مليون نسمة.
بيد أننا نرى أن ما حصل في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/12/2017 يتعدى بأهميته قراراً اتخذ لصالح الفلسطينيين وفلسطين، ولا يمكن أن نفسره إلا ربطاً بالمشهد الدولي العام الذي يرتسم فيه أو تتبلور فيه إرهاصات تشكل نظاماً عالمياً جديداً تنتظم بموجب قواعده العلاقات الدولية وترتسم على ضوئه الفضاءات الاستراتيجية ونطاقات النفوذ والتأثير للدول. والأهم فيه هو ما يتعلق بموقع أميركا دولياً وعلى سبيل التذكير وللمقارنة نقول: إن أميركا في العام 1991 أومأت بيدها فقادت العالم إلى حرب على العراق لإخراجه من الكويت، وفي العام 2001 غضبت فسارع العالم ليكون في خدمتها في حرب على أفغانستان، وفي العام 2003 عندما تردد مجلس الأمن في قبول كذبتها، شكلت خارج الشرعية الدولية تحالفاً واحتلت العراق وفرضت على مجلس الأمن هذا الاحتلال وألزمته بأن يشرع أو يقنن احتلاها ويتعامل معه كأمر واقع.
أما اليوم فقد وقف العالم كله بوجهها في مجلس الأمن (14 صوتاً ضد صوتها) ثم كسرت الجمعية العمومية قرارها واستخفت بترامب وتهديده وصراخ مندوبته في مشهد يقود إلى القول إن العالم بدأ يتمرد على الهيمنة الأميركية، وبدأ يدفع أميركا إلى العزلة الدولية، وبدأ مشهد دولي يتشكل نقيضاً لما سعت أميركا لصنعه منذ العام 1991 تاريخ انهيار الاتحاد السوفياتي، لأن ما حصل لا يمكن أن يقرأ منفصلاً عن أحداث أخرى أهمها:
1) الهزيمة الاستراتيجية الأميركية في المشرق العربي والإسلامي، هزيمة تجلت بعجز أميركا وعلى مدار سبع سنين من العدوان، عجزها عن إسقاط سورية وتفكيك محور المقاومة الذي تشكل سورية قلعته الوسطى، حيث فشلت أميركا في الميدان، وفشلت أيضاً في السياسة وعجزت عن تمرير مناوراتها الاحتيالية في جنيف وكان فشلها في جنيف 8 مدوياً حيث تعملق الموقف السوري بقوة وعنفوان رافضاً كل كيد وابتزاز أميركي عبر مجموعة الدمى المسماة (معارضة سورية).
2) الهزيمة الاستراتيجية والمعنوية في الشرق الأقصى التي تمثلت بالعجز عن احتواء كوريا الشمالية، والاضطرار إلى طلب مساعدة روسيا للوساطة من غير شروط بينها وبين كوريا لإيجاد حل للمأزق الذي سقطت أميركا فيه، كحلٍ يحفظ ماء وجهها وشيئاً من هيبتها.
3) تخبط استراتيجي فيما أطلقه ترامب من وثيقة اسماها (الاستراتيجية الأمنية الأميركية) الجديدة، والتي إذا تمحص فيها الباحث والخبير العارف بالشأن الاستراتيجي ومفاصله، لاستنتج بكل بساطة حال الإرباك والضياع والتردد التي تحكم أميركا، إذ إنها اتخذت وبشكل نهائي روسيا والصين عدوين نهائيين، وقررت المواجهة معهما رغم حاجتها الواقعية للعلاقة الاضطرارية بهما بشكل أو بآخر كما وأكدت الاستمرار في السلوك الكيدي والعدواني ضد كافة مكونات محور المقاومة، وحركات المقاومة والتحرر في العالم، التزمت كل هذا دون أن تثبت قواعد تحالفات مضمونة مع أطراف دولية قادرة أو تمتلك إمكانية المساعدة، فمن كان حليفاً معها يبدو أنه لن يبقى على تحالفه والتزامه والمثل الأكبر هنا علاقاتها الأوربية ومشهد تصويت الأوربيين ضد أميركا في مجلس الأمن كماً وموقفهم المعارض لها في مسألة إلغاء الاتفاق الدولي مع إيران وهي مسائل لها من الدلالات ما ينبغي التوقف عنده وأخذه بشديد الاهتمام، فأي دولة تعادي أكثر من نصف العالم المقتدر وليس لها حليف موثوق يمكنها أن تنتصر؟.
إن بيئة دولية تتشكل على هذا المنوال من شأنها أن ترسم مساراً جديداً يوحي بأن أميركا اليوم ليست أميركا الأمس، وأن أميركا المستقبل والمستقبل القريب جداً هي أميركا المعزولة التي ينفك من حولها الحلفاء، والتي لم تعد ترهب أو ترعب أو تخوف عاقلاً ممسكاً بحقوقه وكرامته، وأن أميركا التي سعت منذ ربع قرن إلى امتلاك قرار العالم واعتبرت على حد ما قال رئيسها يومها جورج بوش الابن، إن الله أقام أميركا لتحكم الأرض، إن أميركا هذه ولت إلى غير رجعة وأن الإمبراطورية التي سعت أميركا لإقامتها باتت حلماً مستحيلاً.
ومع هذه المستجدات أو الصورة الدراماتيكية يبقى الحديث عن قاعدة عسكرية أميركية هنا أو تدخل سياسي عبر سفارة هناك، يبقى تفصيلاً لا يستحق كبير اهتمام، فإذا كان الجسم ينهار ويعزل، فإن أذرعه ومفاعيله ستهوي معه، ولذلك نقول وربطاً أو عطفاً على ما يتداول من شأن القواعد العسكرية الأميركية التي أنشئت إبان العدوان على سورية انها قواعد زائلة وبأقرب مما يظن البعض، وان الانحسار الأميركي عن المشرق بات أمراً واقعاً لن تؤخره قاعدة أو سفارة. وبات السؤال الأبعد كيف يكون سلوك أميركا ومصيرها ذاتها مع هذا التحول؟ فهل تنضوي في منظومة عدالة دولية لتحقيق السلام؟ أم تهرب إلى الأمام في عمل عسكري كوني جنوني تدميري (نستبعده)؟ أم تنكفئ على ذاتها وتتجه إلى ...؟
*استاذ جامعي وباحث استراتيجي