تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


قراءة أولية في الاستراتيجية السورية (16) جدلية الداخل والخارج (2)

معاً على الطريق
الأحد 20/5/2007
برهان بخاري

هل يمكن أن يكون المدح والقدح مكافئين للولاء والمعارضة? وهل من المفترض أن يكون كل موال مداحا وكل معارض قداحا? وهل ثمة حدود منطقية ومعقولة ومقبولة للمدح والقدح بحيث لا ينزل الممدوح من السماء ولا يتدحرج المقدوح الى أسفل السافلين?

في الخمسينيات والستينيات على سبيل المثال وصل الأمر ببعضهم الى حد تأليه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ووصل الأمر بآخرين الى حد اتهامه بالعمالة لأميركا والى اعتباره أشأم شخصية مرت في تاريخ العرب, وما زلت أذكر المشاجرات الدامية العديدة التي كانت تجري خلال النقاشات المستعرة حول عبد الناصر وحول شخصيات ومسائل أخرى ورحم الله جميع الأصدقاء الذين رحلوا وكانوا أطرافا في تلك المشاجرات وأتساءل من جديد ما الذي جنيناه من كل تلك النقاشات والمشاحنات العبثية الدامية وفي اعتقادي أن الهوى الأعمى والتعصب البغيض وضيق الأفق كانت جميعها وراء كل ما جرى.‏

شهدت الخمسينيات حالة نهوض وطني صاحبها مد قومي لكن أحدا لم يكن يتصور أن تنشب مثل تلك الصراعات الدموية بين الأطراف الوطنية والأطراف القومية وعلى الأخص بعد تعاظم دور التيارات الدينية والتي وضعت العروبة مقابل الاسلام وبعد انخراط الشيوعيين الأممين في أتون المعارك في العراق والسودان واليمن وغيرها من البلدان العربية الأمر الذي أوصلنا بالنتيجة الى هذا المشهد المأساوي المخزي الذي بات يعيشه العالم العربي والذي من أبشع مخازيه شيوع مصطلحات مثل اللبننة والصوملة والعرقنة والفتحمسوة (صراع فتح وحماس) والى ما هنالك من مصطلحات يندى لها الجبين.‏

في رأيي الشخصي أن رفع الكلفة مع الوطن وعدم النظر اليه كزورق يحمل الجميع اضافة الى فقر الدم والهزال العام الذي أصاب الحالة الوطنية مسؤولة جميعها عن كل تلك الكوارث التي حلت بنا.‏

كتبت قبل قرابة السنتين حول الفخ الذي ينصبه ارئيل شارون باعلانه الانسحاب من غزة واخلاء المستوطنات وأكدت على خطورة الفراغ السياسي الذي سينشأ وعلى حتمية قيام تناحرات حول السلطة لكن ما قلته وما قاله غيري في السياق نفسه لم يلق أي أذن صاغية وذهب في مهب الريح الأمر الذي يؤكد مدى خطورة وفاعلية مخططات زرع الفوضى الخلاقة وإعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط المبهم المعالم.‏

ومهما بلغت درجة صلابة موقفنا الوطني والقومي وحجم ادراكنا للمخاطر فإنه لا يمكن إلا أن نتأثر بشكل مباشر وعميق بما يجري في محيطنا فكل من العراق وفلسطين ولبنان ذاهب الى المجهول وهي أقطار شقيقة لصيقة والمؤامرات على وطننا صارت علنية وتتسم بوقاحة عز نظيرها فحين يتحدث رجل استلم أعلى المناصب وكان من أبرز رموز الفساد عن شيء اسمه الخلاص فبإمكاننا أن نعاين الدرك الذي انحدرت إليه الصفاقة وقلة الحياء والابتذال.‏

إن إعادة العافية الى الحالة الوطنية لا تحتاج فقط الى التنوير والتبصير بما يجري حولنا وفي العالم كله بل الى شغل حقيقي شاق وجاد على الصعد الداخلية كافة ولا بد من التفكير بأمور تحمل سمات استراتيجية.‏

إن استمرار عدم التمييز بين مفهوم النقد من حيث كونه يبرز الايجابيات والسلبيات بآن معا وبين مفهوم الانتقاد الذي يركز على السلبيات فقط وبأسلوب تصيدي قد أصاب العملية الديمقراطية برمتها بأضرار جسيمة, كما أن لجوء بعضهم الى التضخيم والتطبيل والتزمير قد أسهم في وقوع مثل هذه الأضرار.‏

ربما ولأول مرة نكتشف أننا مضطرون الى ممارسة النقد الى أقصى الحدود المتاحة والممكنة التي قد تصل الى حد مراقبة أداء مجلس الشعب الجديد ومحاسبته شعبيا والى متابعة أداء الجبهة الوطنية التقدمية ومدى انخراط أحزابها في عملية التطوير وعدم توقفها عند حدود اقتسام كعكة الحكم, فالتحديث والعصرنة وبناء دولة المؤسسات ستبقى محصورة في إطار وحدود الشعارات والأماني فقط إن لم يجر جهد حقيقي وجسور لتغيير الواقع بشكل مادي مرئي وملموس ومعاش إذ لا بد من تحصين الداخل الى أقصى الحدود الممكنة لخلق حالة من المنعة تجاه هذا المحيط المتلاطم من الفوضى والمخططات والمشاريع والمؤامرات.‏

من الصعب جدا حصر الجبهات التي يجب أن يطولها التغيير نتيجة الخلل الذي قام في جدلية الداخل والخارج واستئثار الخارج بغالبية الاهتمامات والأولويات على حساب الداخل فلقد جرى التركيز مثلا على ضرورة مكافحة الفساد لكن لم يجر التأسيس الحقيقي لخلق الثقافة المضادة له والقادرة على مجابهته شعبيا فإذا كان من المتعسر تطبيق مبدأ (من أين لك هذا) فلا بد من اشاعة مفهوم (إذا بليتم بالمعاصي فاستتروا).‏

كما أنه لم يجر التركيز بشكل كاف على مسألة المحسوبية والاستزلام والتسيب والهدر وترهل المؤسسات ناهيك عن عدم تصدينا بشكل حازم لقضايا استراتيجية كالمسألة التعليمية ومسألة انفصام التعليم عن أهدافه وعلى رأسها ضرورة ارتباطه بالانتاج والذي هو أمر شبه مستحيل مع استمرار تطبيق هذه المناهج المهترئة البالية وهذا النحو المتخلف.‏

كما أننا لم نول مسألة بؤس الاكاديمية ما تستحق مع وجود كل تلك الشهادات العلمية العالية المعروضة للتداول والاقتناء بأثمان بخسة والتي من أعجب مفارقاتها الحصول على شهادة دكتوراه في المسرح من مؤسسة دينية وتبقى مسألة بؤس الاكاديمية جرحا مفتوحا لا بد من التعامل معه بجدية كاملة.‏

لا أخفي أن مجمل ما نشرته حول المعجم الشامل لأدبيات الرئيس بشار الأسد قد أثار نوعا من اللغط في محيطي الخاص والسبب الرئيسي لذلك اللغط هو البؤس الذي تعاني منه الاكاديمية السورية والعربية والاسلامية.‏

وإنه لمن المؤسف حقا أن ينظر بعضهم الى مثل هذا العمل على أنه عمل تمجيدي من دون أن يكلف نفسه عناء دراسة أبعاده وأهدافه ومراميه.‏

وأراني مضطرا مرة أخرى الى إلقاء بعض الأضواء على هذا المشروع الحيوي فالهدف الرئيسي لهذا المعجم هو أن يكون لبنة أساسية للمعجم التاريخي للغة العربية وللخطاب السياسي السوري على مدى قرن من الزمان للتعرف على مواقع قوتنا وضعفنا كسوريين ولرصد نقاط الالتقاء والاختلاف في ما بيننا من الناحية الايديولوجية من ضمن مختلف الأدبيات بمعنى أن يتعاون الناصريون معنا لانجاز المعجم الشامل لأدبيات جمال عبد الناصر وأن يتعاون الشيوعيون لانجاز المعجم الشامل لأدبيات خالد بكداش وأن يتعاون القوميون الاجتماعيون السوريون لانجاز المعجم الشامل لأنطون سعادة وأن تتعاون بقية الأطراف لانجاز المعاجم الخاصة برموزها وقادتها وأن يجري ادخال مذكرات الأعلام السياسيين الذي مروا في تاريخ سورية كيما نصل الى نقاط الالتقاء والاختلاف الكفيلة بالتأسيس لحالة وطنية راقية ولجعلنا قادرين على مراجعة المواقف وعلى بناء موقف وطني مجابه بعيد عن المزاودات والمهاترات.‏

لا خلاف على أن هذا العمل سيشكل انجازا اكاديميا سورياً رائدا بامتياز وعلى الأخص أنه سيشتمل على عشرات الملايين من الكلمات التي لها ثقلها التاريخي ولكن ما هو واقع الحال?‏

معروف أن نقطة الارتكاز الأساسية بالنسبة للمعجم الشامل لأدبيات الرئيس بشار الأسد هي البيانات الأولية أي عدد وتواريخ الكلمات واللقاءات التلفزيونية والاذاعية والصحفية التي أجراها سيادته وإنه لأمر مؤسف حقا أن هذه البيانات غير متوافرة بشكل دقيق وشامل عند أي مؤسسة من المؤسسات المعنية.‏

إن أدبيات الرئيس بشار الأسد هي بحدود أربعمئة ألف كلمة أي ما يوازي دواوين مئة شاعر تراثي أو ما يعادل عشرة أضعاف ديوان المتنبي ولاعطاء مثال بسيط سأورد بيانا تنازليا لعدد كلمات خمسة نصوص وهي: 1-مؤتمر الأحزاب العربية الرابع تاريخ 4/3/2006 عدد الكلمات ,10101 2-لقاء مع صحيفة الشرق الأوسط تاريخ 7/2/2001 عدد الكلمات ,8964 3-لقاء مع فضائية الجزيرة تاريخ 26/4/2004 عدد الكلمات ,8781 4-بدء أعمال مجلس الشعب تاريخ 10/3/2003 عدد الكلمات ,8768 5-كلمة في مدرج جامعة دمشق عدد الكلمات ,8213 حيث يشكل مجموع هذه النصوص الخمسة 44826 كلمة والذي يقارب ديوان المتنبي.‏

ما قصدته من ذكر هذه البيانات هو اشعار كل من له علاقة في هذا المشروع بأننا أمام عمل رصين وجاد يقتضي تضافر مختلف الجهات الاكاديمية الوطنية المخلصة وعلى الأخص أن النصوص ستكون مشكولة بالكامل هي والمعاجم المتنوعة الملحقة بها ما يسهل قراءة الديبلوماسيين غير العرب لها, وما يمهد الطريق لترجمتها الكترونيا عبر الحاسب الى أكثر من عشر لغات على الأقل.‏

وطالما أن رئيس البلاد جاد في عملية التطوير والتحديث فلن نتوقف عن نهج المكاشفة والنقد لمختلف المؤسسات.‏

تعليقات الزوار

أيمن الدالاتي |  dalatione@hotmail.com | 20/05/2007 00:35

أنا مع الكاتب في أمر الخارج كما سرد نصفه وحلل نصفه, لكني لست معه في أمر الداخل , فهو يرى الأمور من فوق وكأن الشعب لايعمل بل العمل للرئيس فقط, فإن نظرنا في كلمات الرئيس البليغة فإن الأولى أن ننظر في سلوك الشعب أيضا, وأنا أقول أن الخارج قسى على الرئيس الشاب بمالايطاق, لكن الرئيس احتمل وثبت لأن الشعب وقف معه ورفض مغريات الخارج إلا قلة فاسدة خرجت من فوق ولم تخرج من تحت, وباعتقادي أنه كلما ارتاحت قيادتنا من جولة خارجية تستهدفها ظلما وعدوانا عليها أن تقول للشعب من باب الواجب:شكرا. وعليه فإننا في جدلية الخارج والداخل علينا التركيز أكثر على الداخل فهو الحصن الحصين, وأمامنا العراق أكبر مثل حي, فمازلت أذكر يوم قرعت أمريكا طبول الحرب عليه كيف كان العراقيون من النخب في الخارج يطيرون فرحا على الفضائيات معتقدين أن النظام سيسقط وسيعود الوطن لهم, وإذ بالنتيجة الصدمة أن الوطن ذهب وذهب معه الأمن والأمان.

بروفيسور محمد البخاري |  bukhari@tshtt.uz | 20/05/2007 06:41

أستاذ برهان ما تطرحونه ليس جديداً وسبق وأشار إليه عشرات الباحثين منذ خمسينات القرن الماضي في أدبياتهم المنشورة محلياً وعالمياً ولكن الجديد هو أنكم بادرتم بتوجه علمي لدراسة مضمون الخطاب السياسي للدولة إعلامياً وهو ما سبقتنا به الدول الغربية ومشروعكم الواعد يحتاج لمشاركة خبراء مختصين مخلصين بولائهم الوطني ونزيهين في توجههم نحو السياستين الداخلية والخارجية، والاقتصاد، ومتخصصين في قضايا الأمن الإعلامي المحلي والإقليمي والدولي، ومتخصصين في وسائل الإعلام وقنواتها المتعددة، ومتخصصين في الأداء الإعلامي، وصحفيين متمرسين في مختلف التخصصات، إضافة للخبراء اللغويين الذين أنتم في مقدمتهم، لدراسة المصادر المعلوماتية وتوجهاتها، وقنوات الاتصال الجماهيرية الناقلة وفعاليتها، وكمية وحجم المعلومات المنقولة، وتوجه القنوات الإعلامية ومدى تدخلها في مضمون النص الإعلامي سلباً وإيجاباً، والشرائح المستهدفة من المعلومات، ومدى وصول المعلومات الشرائح المستهدفة، ومدى تأثيرها وراجع صداها الإعلامي الفعلي، وغيرها بما يتناسب مع المستجدات... ومشروعكم الرائد يستحق اهتمام ليس القوى السياسية وحسب كما أشرتم في ندائكم بل لأجهزة البحث العلمي المتخصصة في المجالات الستسيوإعلامية في سورية والوطن العربي وهي كثيرة!

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 برهان بخاري
برهان بخاري

القراءات: 1410
القراءات: 1321
القراءات: 1767
القراءات: 3120
القراءات: 3196
القراءات: 2219
القراءات: 2014
القراءات: 1275
القراءات: 2306
القراءات: 1682
القراءات: 1686
القراءات: 1593
القراءات: 1465
القراءات: 1619
القراءات: 1327
القراءات: 1361
القراءات: 1569
القراءات: 1554
القراءات: 1607
القراءات: 1355
القراءات: 2454
القراءات: 1438
القراءات: 1348
القراءات: 1552
القراءات: 1844

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية