أما مضمون هذه الفضائيات وبرامجها التي تدعي أنها ثقافية، فما من أحد يدرك ذلك إضافة الى التسميات التي هي غزلية أكثر مما تنبئ عن مؤسسة عامة أو إعلامية.. ولا يحتاج المرء إلا الى جولة في سماوات الفضاء حتى يكتشفها.. وبالمناسبة فقد حصل معي ذلك بعد أن امتلأ رأسي صراخاً ونقاشاً لا هو بالحوار ولا بالنقاش وإنما هو الصوت العالي الذي يمكن أن يخضع الطرف الآخر سواء كان في الأستوديو أم بين الجمهور.. هذا إذا تخلله بعض الهزء أو السخرية وربما السباب والشتائم.
وهذه المرة كان الحديث عن الجن وإمكانية التدخل في حياة البشر بل التحكم فيها.. وبين المصدق والمكذب تهبط الأسئلة: كيف يفعل ذلك هؤلاء الجن؟ ولماذا يتحمسون لبلد دون آخر؟ وإذا كانت الأدعية تجلب هذه المنافع فلماذا لا نقيم حفلات (للزار) أو لاستدعاء الجن لمساعدتنا فيما نحن نغطس فيه يوماً بعد آخر؟.. وكأن المتحدث ليس مقتنعاً بهذا تماماً فهو يريد أن يقيم الدلائل المحسوسة والملموسة حتى في الأستوديو لكي تتم عملية الاستدعاء فقط.. ويصل الأمر الى حد الاعتراف بأن الوسيط هذا يمكنه أن يفعل كل شيء حتى ولو بالغش والخداع.. بمعنى أنه يمسح على الورق الأبيض مادة قابلة للاشتعال ثم يضعها في كأس أمامك أيها الرائي أو الجمهور فتشتعل تلقائياً.. ويفرّق هذا (العالِم) بين الجن المؤمنين والآخرين الشياطين الذين يملؤون دنيانا عبثاً وحضوراً يفوق كل خير أو نفحة إيمان. وبين فقرة وأخرى يجرؤون على أن يستشهدوا بآية من القرآن الكريم وكأنها تأكيد لما يحصل معهم أو كأنهم ملهمون كالأنبياء فيما هو خيّر وما هو شرير.
ما هذا في رأيكم أيها الجمهور العريض الواسع الذي يتشوق الى هذا المجهول أو الى اليد الخفية التي تمتد بالجرم أو الاشتباه حتى يفك عن المتلقي كل أذى أو شر؟.. وتستقطب هذه الندوات جمهوراً واسعاً ولاسيما من النساء البسيطات الأميّات اللائي يُدخلن حياتهن الشخصية في كل أمر صعب وعسير حتى ولو كان مضايقات (الضرة) أو مؤامراتها.
ماذا يعني كل هذا أيها الذين يطفرون الى سطح الحضارة بأن يمتلكوا الصحون لالتقاط الفضائيات أو الحواسيب للركض بين هنا وهناك من الصين حتى ألاسكا؟.. وإذا كانت الحضارة بناء فإن هذه الأبنية الإعلامية ليس لها جذور ولا أصول أو حتى جسور تصل بين الإنسان المتقدم والآخر المتراجع أو الذي يتخلف أكثر منه يتقدم.
ما بال كل شيء أصبح يدخل تحت عنوان (حرية التعبير) كما لو أن هذه الحرية هي انفلات تام على كل ما يخطر في البال من كلام. ومن أين تأتي تلك الأموال التي تنفق على هذه الفضائيات ولاسيما أننا نعرف أو نخمن مقدارها الضخم؟.. ولو أن هذه البرامج تتحول الى تدريس اللغة العربية مثلاً.. أو محو الأمية حتى.. أو أي فرع من فروع التقدم العلمي ولو كان في مجال الوعي الصحي.
رويدكم أيها الأغنياء الذين لا يعرفون كيف تهبط عليهم الثروات.. ويحاولون التصرف بها دون الدخول في القنوات الإعلامية الصحيحة.. نحن لسنا مع المراقبة الصارمة والضغط الشديد وتلقين ما يجب أن يقال لكن الرقابة يجب أن تأتي من الخبراء والمعنيين بالإعلام ليدققوا هل هذه مواد تصلح أو لا تصلح على أقل تقدير.
ليس في هذا تعارض مع أي مادة من مواد الأنظمة أو الدساتير أو حتى لوائح ما يجب أن يكون وما لا يجب.
وعليكم أيها الإعلاميون أن تحولوا مراكز إعلامكم الى مدارس إعلامية تعلم خطوات الإعلام لا أن تترك الحبل على الغارب.. وخاصة للنساء اللائي يعتبرن أن الحرية هي نوع من الانفلات في الملبس وفي الكلام وفي لملمة الضحكات المتناثرة بمناسبة وبغير مناسبة.
الإعلام لمن يريد أن يدرك ما الإعلام هو العودة الى الخبر والتعليق عليه سواء كان سياسياً أم من قصص الحياة أم من الدعابة والهزل.
وفي البدء كانت الكلمة الصحفية النقية والنظيفة والتي تهدف الى خلق الروح الاجتماعية وإنهاض الروح الثقافية وهكذا وصولاً الى السياسة.. وما أدراكم ما السياسة؟!