فما من سوري قدر ذات يوم أن يعيش لحظات شاذة كهذه قاعدتها الموت ومشهدها التدمير والترويع ومادتها الفكرية والواقعية انحيازات نحو النوايا واحتضان لادعاء غربي غريب لطالما بنينا مجدنا ووجودنا في مواجهته تاريخياً وما من أحد داخل سورية أو خارجها كان يتوقع أن الأسر الحاكمة في الخليج والحجاز هي مجرد وحوش من الطراز الهارب من الحياة والمرتزق على جثث الضحايا وآلام العرب والمسلمين والقسوة في الحدث نفق لا ضوء في آخره.
وقد أخذت هذه القوة من التقلبات ومن المراحل ما يكفي للإنسان والشيطان معاً أن يصابا بالذهول وهم يتابعون هذا التدفق الذي لا يقنع ولا يشبع، ومع ذلك لن نتسمر بفعل المفاجأة عند هذه النقطة ولقد تأخذ عملية الذهول زمناً مقطوعاً ومرحلياً ولكن مصادر الحقيقة ومقومات العقل وعوامل التكوين التاريخي ومعها ذاكرة حية لم تغادر الحضارة لحظة ولم تغادرها قيم الإنسان لحظة، كل ذلك سرعان ما ينهض من مكامنه ليردنا إلى الحقيقة والمنطق فنرى أن الشاذ الذي يحدث هو تراكم أهواء وأنواء وركام تيارات قديمة وقد وجدت ضالتها في هذه اللحظة من خلال أدواتها الإقليمية والعربية ومن خلال أذرعتها المستنفرة على عجل من الخارج وفي الداخل السوري، وعند حدود الموجات المتآكلة لهذا الحدث يفيء الإنسان السوري إلى رشده ومعه كل شرفاء العالم وأحراره فإذا بالذي يجري ليس مفاجئاً وليس استثنائياً بل هو قانون الحياة السياسية المعاصرة.
أليس من حق كل إنسان أن يسأل سؤالين متلازمين، سؤال يقول لماذا سورية بالذات وعلى هذا النحو من الحرب الكونية عليها؟ وسؤال آخر يقول كيف تجري هذه الاستجابة المروعة في الداخل السوري نفسه لرغبات الأجنبي الملحد والحاقد ولنزعات صليبية كولونيالية لطالما اعتقدنا أنها فنيت مع الزمان وأدركت قواها بأن العرب في سورية هم مادة للتاريخ ومصدر للحضارة وموقع يحتضن لحظة التقاء السماء بالأرض ومنصة لها كل خصائص الاستيعاب وإنتاج الهوية الإنسانية على مستوى الدين والقوميات وعلى آفاق مصادر العقل والسماحة، وفي مسرى حاسم يؤكد بأن بلاد الشام موقع حرام يمتلك رقة جدار الورد في لحظة الصفاء ويمتلك رهافة حد السيف حينما يدعو الواجب، إن السؤالين معاً يقدمان ملامح إجابة مختصرة تقوم على وحدة السيف والقلم ووحدة الذات والآخر ووحدة الراهن والمستقبل في حاضنة الدنيا سورية العربية.
ولسوف نخرج إلى الأفق الأعلى الذي تأخذنا إليه هذه المعالم فهناك على الأرض ما يقدم المشهد بالمعنى العملي والسياسي ولعل قيماً كبرى مثل القومية العربية ورسالة الأمة الحضارية ونشر السلام في العالم ومواجهة موجات الاستعمار الغربي والتصدي للصهيونية العالمية واعتماد مبدأ التنوع من أجل الوحدة، والوحدة على التنوع وربط الحاضر بالمستقبل واستثمار حقائق التاريخ في الحاضر والمستقبل وصياغات أخرى تملأ الدنيا كالأدب والفن والإبداع وصفاء الفكر ونقاء الوجدان والاستعداد الدائم للشهادة، ذلك كله هو بعض سورية وقبس من خصائصها فبأي آلاء ربكما تكذبان.
ويعرف الغرب واليهود ذلك ويدرك الأجلاف والعلوج والأعراب حقيقة ما عليه سورية، والأطراف الحاقدة هذه توحد مهامها الآن في إطار أن سورية الوطن يجب أن تنهار ولابد من حذفها إلى الأبد من تاريخ العرب والمسلمين والعالم، ولعل في هذه اللمسة الناعمة شكلاً والخصبة مضموناً نعثر على بعض التفسير لهذا الهيجان على مستوى قوى الشر في العالم كله، فهو يأخذ هذا المسار المحموم من اجتماع لآخر ومن مؤتمر لآخر ومن قرار لآخر، مرة في اسطنبول وأخرى في جنيف وثالثة في القاهرة ورابعة في باريس والمرة المئة تقبع هناك في أوكار الغرب الحاقد ومؤسسات الصهيونية وأنفاق الماسونية.
ونزعة همجية لطالما عانينا منها من الأعراب وهم أشد كفراً ونفاقاً ومن المد السلجوقي التركي وهو يجد تجسيده الآن على حساب شعبنا الصديق وجارنا العريق في تركيا. إنها مسألة تستدعي النظر، ليس لتحري أسباب الأزمة فحسب وإنما للتدقيق في مقاطع أخرى من المستقبل القادم بحيث يكون المخطط هو تدمير العالم كله عبر إنجاز تجربة التدمير لسورية وكأن كل هذه المجموعات أياً كان موقعها تتحرك على جسر من الأوهام والأحقاد مبني لكي تعبر حضارة العالم إلى مجاهل الظلام ، وهناك في هذه المجاهل ينتعش الدور الاستعماري ويعتقد الغرب أنه قد أنجز المعركة المصيرية وما تبقى لديه هو أن يبسط نفوذه على أمم الأرض وأن يفتح المدى أمام الحلم الصهيوني التوراتي وأن يصل إلى نقطة يقول فيها لقد انتهى زمن سورية وتلاشى وعد فينيقيا وقرطاج وانكفأت الأديان إلى مخابئ الأسطورة وتلاشت حقائق القومية العربية وجفت منابع الإسلام والمسيحية، فتلك هي حدود الواقعة الكبرى الآن ولهذا المعنى العميق يجتمعون بقواهم وأسلحتهم ومجاميعهم ويتسللون إلى الداخل السوري عبر عصابات مجرمة ومن خلال قوى متشرذمة يحركها الحقد ويعطيها المال والسلاح الإغراء المسموم، لعلهم في ذلك يتوقعون أن تسقط سورية وهذا هو سر الأسرار.