تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حاضر الكلام, سرد الماضي في حفر الباطن

كتب
الأربعاء 11-7-2012
باسم سليمان

إنّ اختيار ضمير المتكلم في السرد الروائي, بقدر ما يحقق مصداقية تخيلية للواقع, يعمل على تأكيد الهوية الضائعة بين المؤلف الذي حكم رولان بارت بموته والروائي كعنصر من عناصر المحكي التخييلي عند جيرار جينيت؛

هذا الالتباس الذي أوجدته ما بعد البنيوية في سؤال, من يتكلم!؟؛ يُكشف هنا بالإكراهات التي يمارسها الواقع والتخييل على المؤلف؛ فيكون الكلام فعلاً تحريرياً بأن يسرد, سواء أكان سرده فعلياً أم ارتدادياً ولكنّه بالنهاية ينتج مضادات تعمل على نفي الواقع ونفي التخييل وبنفس الوقت تعيد تأريض التخييل وتخييل الواقع, هذا المحو والإثبات أو الضياع والإيجاد هو الذي يقدم مشروعية الراوي بضمير المتكلم وبالتالي إيجاد المصداقية في إقناع المتلقي وتلبسه حالة التكلم في سؤال, من يتكلم!؟.‏

« ضياع في حفر الباطن»:‏

هو العنوان الذي يُعقد مع القارئ في الرواية, الذي ذاته, المتكلم هنا, أي أن خطاب الرواية يوجهه الراوي لنفسه وكأنه بذلك يوقف ضياعه ومع القارئ الخارجي الذي ينتقل له الضياع الذي عاشه الراوي ويهدف بأن ينقل له نفس حالة الراوي وهو بذلك يطلب قراءة الدلالة المتخفية في اسم المكان الحقيقي والواقعي « حفر الباطن» بإنتاج القراءة المضادة لباطن الباطن, كون الظاهر معادلاً ضدياً للباطن, في المعنى التقليدي وهو هنا يسلط الضوء على الضوء, فالباطن المخفي الذي يُفترض بالرواية تقديمه, لا يؤمن الكشف المراد إلا بأن يصبح الباطن ضديّاً للباطن.‏

يُغفل العبيدي اسم المجند أو يكاد هذا الإغفال يجعل الجندي يماثل أي جندي عراقي عرف حروب العراق المتتالية ويغفل عرقه واثنيته وطائفته, يجعله معادلاً للعراق وهو إذ يفعل ذلك يقدم الوجه الآخر, للشخوص الأخرى في الرواية, بأن يُثبت ما أغفله عن المجند وكأنه بذلك يقيم التوازن بين الاستراتجيا التي تتجاوز التفاصيل والتفاصيل التي لا ترى الاستراتيجية.‏

المحكي الرملي:‏

المجند يروي كيف انتهت الحرب العراقية الإيرانية وكيف تم احتلال الكويت وكيف تمركزوا في منطقة حفر الباطن وما حدث بعد, من هجوم عالمي, لتحرير الكويت وكيف تحول كل شيء إلى رملِ لا يدل على وقت.‏

يدخل العبيدي في جزئيات الجوع القاتل والقلق المدمر للشخصية والانحدار كما العرق الزنخ الذي يتفصد من جسد الهوية الضائعة في سراب وضياع جهات والهزيمة التي تطال في النهاية, كل شيء وكيف يسقط الهرم ويتحول ركامه لتيه, يترصده كل شيء إلا الموت, الموت المتخم والذي يتجشأ, مسيرة تقود المجند ورفاقه إلى معسكرات الأسر في السعودية وعبر ذلك يكشف العبيدي, أن التفاصيل التي نظف منها مجنده لم تختفِ بل تبدت وكأنها أقوى من كل الغرائز الأساسية التي تبقي الكائن الحي على قيد الوجود الحيوي رغم الجحيم الذي مروا به!؟ , هكذا يدخل العبيدي إلى قلب اللغم, لا يفكر بنزع فتيله, فهو يعرف أنّه لا انتهاء من سراب حفر الباطن إلا بتفجير اللغم من الداخل وليس من الخارج لربما تعود الأمور إلى طمي النهرين اللذين شكلا العراق ويُخلق إنسان عراقي بهوية واحدة لا تعرف الظلال.‏

المشهدية وذاتية التقييم:‏

يروم العبيدي أن ينقل ما حدث, أن يجعلنا نشم ونبصر ونحس ونلمس وكأنّه يقول لا تخييل أبدع من التجربة وليست المعايشة إلا قناع, فانزع قناعكَ الذي يحميك من الغازات السامة.‏

هو يكتب عن الجلد ليس عن الثياب بل يكتب على هذا الجلد, لكي ,عندما نقلب صفحات الرواية, تتعفر أصابعنا بالرمل وبالوسخ وبدماء الجروح وبكاء العيون والجوع الساكن أبداً في الكريات الحمراء والأوكسجين المبعد عنها والأقدام التي تحولتْ لخف ضخم من القيء والألم والضياع والقصف والتدمير .‏

اكتمال الدائرة:‏

يعود المجند بعد استكمال إجراءات عودة الأسرى وبعد أن عرف عالم جوليا المجندة الأميركية وودع صديقه الأشتر الذي عاش معه كل تفاصيل الضياع وكان المرآة التي عكس بها المجند / الراوي, الواقع .‏

وهناك في الأسر, خطّ مخطوطاً لتلك الأيام وتركه للريح خوفاً من الرقيب في بلاده, ليجد الأب وقد أصابه العمى وأم مقعدة وزوجة تكاد تشف, عاد ليجد حفر الباطن قد أصبح البلاد.‏

عبد الكريم العبيدي يرفع بسرده بصمات حقبة زمانية امتدت طويلاً في العراق, تؤسس لمساءلة ونقد وكشف للذي حدث, فالحاضر لن تستقيم له حال ما لم يفند هذا الماضي القريب كالوريد وهو إذ يختار الروايه أن تكون بلا اسم أو ملمح إلا ليجعله كل العراق. رواية كُتبت بحس عالٍ من المسؤولية والحساسية الوطنية, بلغة لاذعة صريحة وواضحة لا نرجسية فيها ولا أوهام وكأن الرواية عبارة عن ذرات غبار تراصفت من تلك السماء المغبرة فوق حفر الباطن عرى كل شيء ليليق بالبذلة التي مازالت تنتظر عند الخياط في حيه.‏

 ضياع في حفر الباطن لـ عبد الكريم العبيدي‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية