تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


جوزيف كونراد... سيرة الكاتب البحري

كتب
الأربعاء 11-7-2012
إن قوة كونراد كروائي تكمن في أنه لا يمكن وصفه ضمن التراث الروائي الأنغلو- أميركي- رغم جهود(ليفيز) في الأربعينيات من القرن العشرين، إن تشككه وسخريته القادحة وتصميمه على كشف عيوب الناس فريدة من نوعها

كتب يقول عن نفسه:( لقد دعيت بالكاتب البحري وبكاتب المناطق الاستوائية وبالكاتب الوصفي وبالكاتب الرومانسي وأيضاً بالكاتب الواقعي ولكن الحقيقة هي أن كل اهتمامي كان منصباً على القيمة المثالية للأمور والأحداث والناس ولا أي شيء آخر).‏

كان الدفاع عن كونراد هو التاريخ اللاحق للقرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين لا تزال (قلب الظلام) تلقي الضوء على بربرية القرن العشرين.‏

إن حقائق حياة كونراد استثنائية بما فيها الكفاية: شخص بولندي منفي برغبة منه أصبح قبطاناً بحرياً تجارياً بريطانياً.‏

ثم ها هو يحول نفسه إلى واحد من أعظم الروائيين(الإنكليز) في القرن العشرين ، ولكن كونراد لم يكن ليحجم عن إضفاء الروعة على الوقائع في محاولاته للوصول إلى الحقيقة الشعرية ليس من السهل فك لغات خيط الغزل، إن حياة كونراد محيرة بقدر ما هو فنه.‏

ولد جوزيف كونراد باسم(يوزن تيودور كونراد كوجينيوفسكي) في الثالث من كانون الأول1857 في بردتيشوف في أواكرانيا البولندية منذ عام 1795 لم تعد بولندا دولة مستقلة بعد أن تقاسمتها النمسا وبروسيا وروسيا.‏

على شاهدة قبر كونراد كتب اسمه بطريقة لا هي بولندية ولا إنكليزية(جوزيف تيودور كوجينوفسكي) وهذا رمز للتشوشات التي لا حقته طوال حياته كما نقش على الشاهدة العبارة التي استخدمها هو في رواية الجوال(النوم بعد التعب، الميناء بعد البحار العاصفة، الراحة بعد الحرب، الموت بعد الحياة، كلها تبعث الكثير من السرور) هذان البيتان من قصيدة الملكة الجنية للشاعر البريطاني(سبنسر).‏

لدى مراجعة كونراد من الصعب فهم شخصيته المزاجية العصابية كما هي مع ألمعيته الجريئة ، لم يكن يرحم نفسه كما يعامل الآخرين بقسوة في رسائله يبدو كمزيج من الفنان المعذب والمشتكي الدائم ولكنه كان قادراً على حس النكتة النافذة.‏

تقريباً تحوي جميع رواياته لحظات من الهزل الضاري حيث ترمى الرؤيةالتهكمية بحدة شديدة على وضع معين فلا يستطيع القارئ سوى الضحك دون مرح.‏

لا شك أن كونراد كان حتى في شبابه أخرق وحاد المزاج ولخشيته من فوضاه الداخلية اختار حياة البحار لتغطية النظام الذي كان في حاجة إليه وحين حل الملل اختار صرامة الفن الروائي فمارس بتفان أشبه بتفاني النساك إبداع فن روائي لم يسبق له مثيل في الأدب الأنغلو أميركي، إن إخلاصه في العمل يجعل حتى هنري دجميز يبدو كسولاً كما أن جديته قد تجعل دجميز جويس يبدو كشبح انتشل كونراد الرواية الإنكليزية من انشغالها البورجوازي بالحب والزواج والثروة وشأنه شأن كيبلنغ فقد ركز على علاقة الفرد بالعمل والواجب وعلى العكس من كيبلينغ . كان هو مفتوناًَ بالخيانة وخيانة الذات،( في قلب الظلام ورواية نوسترومو) أوضح بجلاء كافٍ أن المثاليات والمعتقدات لا تستطيع إنقاذ الفرد ولا المجتمع المشاعر التي تتحكم بالبشر هي الأنانية والهوس بالذات وفوقهما كره مرضي للحقيقة.‏

حياته بعد موته‏

كان تأثير كونراد الأدبي شاملاً ورغم أن عدد قرائه انخفض بعد وفاته، فقد بقي (رقم واحد) بلا منازع بالنسبة إلى الكتاب. وها هو كبير الحداثيين (ت.س إليوت) يحدد نمطاً من التقدير لكونراد (فيقتبس آخر كلمات (كورتس) كمقدمة لقصيدته ( الرجال والجوف) كما أن الأميركيين كانوا يبجلبون كونراد على الدوام. لقد كان انطباعهم عنه أنه كاتب ذو صبغة عالمية وليس كاتباً بريطانياً . إن (غاتسبي) في رواية (غاتسبي العظيم) لسكوت فيتزجيرالد يبدو كابن عم رمث لكورتس كما أن راوي الرواية (نيك) يشبه الراوي (مارلو) في روايات كونراد ولكنه أكثر رضا عن نفسه، حفلات غاتسبي هي إعادة تصوير في عشرينيات القرن العشرين لطقوس (قلب الظلام) التي تفوق الوصف.‏

أعاد هيمنغواي تفسير تأكيد كونراد على تضامن البحارة محولاً إياه إلى شيء ما أكثر مبالغة وأكثر لا موثوقية على نحو متعمد. أما استخدام ويليام فوكنر لوجهات النظر المتعددة (أو الرواة المتعددين) والتلاعب بالمخططات الزمنية فيدين كثيراً لنوسترومو وقلب الظلام.‏

لقد أعجب كاتبان مختلفان أشد الاختلاف شأن (أندريه جيد) وتوماس مان بكونراد وتعلما منه.. أعجب مان بموضوعيته الباردة ، بينما ساعد جيد على ترجمة أعمال عديدة إلى الفرنسية وأشرف على ترجمات في هذا المجال.. كان مهتماً على وجه الخصوص برواية ( لورد جيم): إن قفزة جيم (قفزة لورد جيم من السفينة الآخذة بالغرق لينقذ نفسه تاركاً الركاب لمصيرهم..) أول فعل وجودي لا يلهم (جيد) فحسب بل شركاؤه أيضاً في هذا المجال: جان بول سارتر و ألبير كامو.‏

في بريطانيا كان تأثير أدب كونراد قوياً ونامياً، إن المشاهد الطبيعية والمدينية الرثة في أعمال (غراهام غرين) .‏

تبدأ في دكان (السيد فرلوك) العميل السري المريب. في عمله قضية محترقة يقدم غرين فروض الطاعة إلى كونراد على نحو مباشر فهو بفتحه بباخرة تمخر نهر الكونغو، أما رائعة (مالكولم لوري) المسماة تحت البركان فلها الكثافة التطبيقية اللغوية التي لرواية (نوسترومو) وتستعيد على نحو مشابه مشاهد طبيعية غريبة للتأكيد على فساد البشر حتى فرجينيا وولف تبدو وكأنها تقر بتأثير كونراد في التزويقات الخطابية العالية لمقطع (الوقت يمر) من رواية (إلى المنارة) التي تشبه مقاطع من (شباب) كونراد مع تفاصيل دقيقة من أجل التوكيد المضاف.‏

أما فيما يخص الكتاب الأقرب إلى عصرنا فإن (جون لوكاريه) وويليام غولدينغ يدينان لكونراد إن اهتمام لوكاريه بالخيانة والهوس بالذات يفوق حتى اهتمام غراهام غرين بهما. كما أن إيمانه بطبيعة (الاختبار) تربط شخصياته بشخصية جيم ورازوموف .‏

استكشاف غولدينغ للتضامن والعزلة والشر في (طقوس العبور) له سابقة في دزنجي النارسيوس: إن موت كل من (جيمس ويت والقس كولي) دون أن يبكيهما أحد في مقصورتيهما يحمل تشابهاً مبهماً.‏

الأدب الذي أتى بعد فترة الاستعمار فيه إلهام من كونراد وضيق به على حد سواء، تبقى رواية (قلب الظلام) نصاً مثيراً للجدل. فبالنسبة إلى (تشينوا اتشيبه) تمثل كل ماهو زائف عن الموقف الأوروبي من إفريقيا ، أما بالنسبة إلى (ف.س. نايبول) فهي قد برهنت أنها نقطة انطلاق لواحدة من أجمل رواياته (منحنى في النهر) أما رواية الكاتب الكيني (نغوغي واثيونو) المسماة (حبة قمح) فتنقل الوضع الوارد في (تحت أنظار غريبة) إلى التاريخ الحديث للنضال الإفريقي في سبيل الاستقلال .‏

الكتاب: جوزيف كونراد- سيرة موجزة - تأليف: غافين غريفيث ترجمة : توفيق الأسدي - صادر عن وزارة الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب- قطع متوسط في 127 صفحة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية