تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


المفكِّر المسرحي المغربي عبد الكريم برشيد: هناك فعلاً من يخون المسرح

مسرح
الأربعاء 22-2-2012
أنور محمد

علينا أن نعادي التهريب الثقافي والذين يريدون إغراق أسواقنا بالمعلَّبات المسرحية والتشكيلية والروائية والسينمائية.

كاتب وباحث ومفكِّر مسرحي إشكالي؛ مؤسِّس «الاحتفالية» في المسرح العربي, التقيناه في الجزائر وكان هذا الحوار:‏

- إلى الآن ما نزال نخفق في صنع مسرحنا، فنحمِّله مشروعنا النهضوي، من المسؤول؟‏

-- أعتقد أنَّ مشروعنا النهضوي لم يُخفق أبداً، وهو بالتأكيد يتحرَّك ويسير، ولكن سيره بطيء، وأعطابه كثيرة، وهذا راجع إلى عوامل ذاتية وأخرى موضوعية كثيرة، لأنَّه ينبغي أن لا ننسى أنَّ هذه النهضة غير مرغوب فيها غربياً، وذلك مادام أنَّها تخلُّ بالتوازن المطلوب،والذي يستوجب أن تبقى إسرائيل في المنطقة هي وحدها واحة الحرية، وهي منارة العلم والفن والتقدم، وهي الأقوى والأعلى قامةً وصوتاً،كما أنَّ المركزية الغربية تمنع من أن تتعدَّد المراكز النهضوية في العالم، وتستعيض عنها بعولمة متوحِّشة تأتي على الأخضر واليابس، وتسعى لأن تحوِّل بقية العالم ـ والذي نحن منه ـ إلى أدغال وأحراش، وإلى صحاري قاحلة. أمَّا بالنسبة للعوامل الذاتية، فهي كثيرة ومتنوِّعة بلا شك، ويكفي أن نذكر منها العوامل التالية؛ أولاً، نحن لا نتعامل مع الزمن تعاملاً جاداً، ولا نعطي للساعة الأهمية التي تستحقُّها، ولا ندخل معها في سباق، ولا نأخذ من الحداثة إلا قشورها، ولا نراهن على الإبداع بدل الإتِّباع، ولا نعطي الأهمية إلا للدخيل، ونقفز على الأصيل من الأفكار ومن الإنتاج، ونعاني كثيراً من داء فقدان الثقة في الذات، ونتمثَّل الآخر كمالاً مطلقاً وعلماً مطلقاً وحقيقةً مطلقة، ولا نجرؤ على مناقشته،على نقده ومعارضته، والدخول معه في جدلٍ علمي وفكري، وبذلك، فإنَّنا نظلُّ بعيدين عن الأسئلة الفكرية والعلمية والسياسية والجمالية الكبرى، ونبقى جاهلين في فكرنا ووجداننا وفي أرواحنا، ونكتفي بأن نمثِّل الانتساب إلى العصر وإلى أهله، الشيء الذي يستوجب أن نقوم بنقد ذاتي مستمر ومتواصل، وألا يصل هذا النقد إلى حدِّ تجريح الذات أو التشكيك في قدراتها الكامنة والخفية أو المعطَّلة، كما يستوجب أن نعيد ضبط ساعتنا حسب التوقيت العالمي، وأن نتحرَّر من جاذبية الساعة الرملية، والتي تعيدنا إلى الخلف، بدل أن تدفع بنا إلى الأمام، أو إلى الأعلى.‏

ثمَّ إنَّنا وهذه الأخطر لا نشتغل ـ سياسياً وفكرياً وفنياً، داخل (أوراش) واحدة وموحَّدة كبرى، وبذلك تبقى مجهوداتنا متفرِّقة ومبعثرة وغير متماسكة وغير متكاملة، الشيء الذي يجعل نتائج اجتهاداتنا جزئية وفئوية وانتقائية وعابرة، وتبقى بذلك حبيسة إقليميتها وجهويتها، وتظلُّ محكومة بحساباتها الصغيرة والضيِّقة. إنَّ الأمر يتطلَّب في الإبداع وجود جرعةٍ زائدة من الجرأة ومن المخاطرة ومن التمرُّد على عمود المسرح العالمي ، وأن تكون هذه الجرأة دائمة وجديدة ومتجدِّدة بشكل تلقائي، وأن تمسَّ كلَّ مظاهر الحياة اليومية، وأن يكون لها وجود في البيت وفي المدرسة وفي الشارع وفي السوق وفي الجامعة وفي المسرح وفي كل المنتديات الثقافية والفنية .‏

-أليس المسرح حاجة ـ لقد بدأ وكأنَّه السحر ـ اليوم كأنَّ أحداً يسعى لإزاحته، إبطال مفعوله. هل المسرحيون العرب يخونونه؟..‏

-- فعلا، المسرح حاجة، ولكن الحاجات الطبيعية يمكن تكييفها أو تزييفها أو الالتفاف حولها، أو استبدالها بما يشبهها، وهذا ما نعيشه حالياً، من خلال إشباع حاجة الإنسان للمسرح بما يشبه المسرح، والعمل على مدِّه بأشكال متعددة ومتنوِّعة من الفرجة، وبملايين من الصور المتحركة، والتي تتضمَّن الحكي والسردَ والمثيرَ والمدهشَ من الشاهد، ولكنَّها تقفز على أهمِّ شرط في المسرح، والذي هو التلاقي الإنساني الحي. وبهذا فقد أمكن أن نقول بأنَّ هناك فعلاً من يخون هذا المسرح، وهناك من يحاول أن يستبدل التلاقي المسرحي العفوي والحيوي بالتفرُّج الآلي السلبي، وهناك من يسعى لأن يسجن الناس أمام الشاشات.‏

إنَّه يتم استبدال المسرح بالشاشة، ويتمُّ استبدال المحتفل بالمتفرج، ويتمُّ استبدال اللقاء الحي بالوقائع المسجلة، ويتمُّ استبدال الحضور بالغياب، ويتمُّ استبدال الفنان المبدع بالفنان الأجير، وبهذا تكون الحرب على المسرح حرباً على الحياة وعلى الحريَّة وعلى التلقائية وعلى الشفافية, وعلى كلِّ القيم الرمزية التي حملها هذا المسرح على امتداد قرون طويلة جداً.‏

إنَّ كلَّ من يحاول اغتيال هذا المسرح، سوف يجد نفسه في مواجهة الحياة، وسيدرك أنَّه لا وجود لأيَّ حياة اصطناعية خارج هذه الحياة الحقيقية، وإنَّ من يخاصم المسرح، لابدَّ أن يجد نفسه يخاصم العقل والمنطق، ويخاصم الحقيقة، وهل المسرح ـ في معناه الحقيقي ـ إلا روح الحقيقة؟.. روحها الكامن خلف صور هذه الأيام المتحركة، وخلف وقائعها الكاذبة والمزيفة.‏

- المسرحيون ليس لديهم سوى أنفسهم ـ وزارات الثقافة العربية ـ أو تسيِّس المسرح فيصير يعبِّرُعن غرام السلطات بتجهيل شعوبها، أو تضايقه، فماذا يفعل المسرحيون بأنفسهم؟‏

- إنني أؤكِّد دائماً على ألاَّ يكون المسرحي مجرَّد أجيرٍ في مؤسِّسة تجارية، وألاَّ يكون مجرَّد موظَّف في مؤسِّسة إدارية، وأن يعرف أنَّه فاعلٌ وجودي وتاريخي، وأنَّ مهمَّته هي أن يدافع عن الحق والحقيقة، وأن يعرف أنَّ الحقيقة طاقة وسلطة، وأنَّه لاشيء يمكن أن يعلو فوق هذه السلطة، وأنهَّا غير قابلةٍ للبيع والشراء أو المقايضة، وعلى هذا المناضل المسرحي أن يعرف الحقيقة البسيطة التالية، وهي أنَّ المسرح باقٍ، وبأنَّ الوزراء عابرون، وبأنَّ الأصل في هذا المسرح الخالد أن يعبِّر عمَّا هو أساسي وعمَّا هو ثابت وعمَّا هو إنساني وعمَّا هو مبدئي وعمَّا هو كوني وعمَّا هو حقيقي، وأنَّ مهمَّته هي أن يفضح الزائف، وأن يعرِّي الأكاذيب، وأن يعالج الأمراض النفسية والعقلية، وأن يكون طبيب النفوس المريضة، وأن يكون جرَّاح الأوضاع الاجتماعية الفاسدة والمعطوبة، وأعتقد أنَّ بإمكان المسرحي العربي اليوم، أن يحقق شيئاً من هذا الطموح، وأن يكون في مستوى المسرح الجاد، وأن يرتفع إلى هموم اللحظة التاريخية الراهنة..‏

- ماذا لا يزال المسرح يلبس ثوب الأخلاق؟...خاصَّة عندنا؛ سواء في المشرق أو في المغرب العربي. في حين أنَّ أوروبا وأمريكا تجاوزتا بل نزعتا عنه ثوب الفضيلة - أيكشف هذاعن نمطية تفكير كلٍّ منَّا؟.‏

-- أعتقد أنَّ الأساس في المسرح هو الجمال، ولكن، من قال بأنَّ الأخلاق لا يمكن أن تكون جمالاً أيضاً، أي أن تكون جمالاً معنوياً يخصُّ النفس والعقل والروح والوجدان؟ هناك ثوابت في الوجود لا يمكن القفز عليها، ومن هذه الثوابت إنسانية الإنسان، وأعتقد أنَّ النزول إلى مستوى الحيوان، وإلى درجة الوحش، لا يمكن أن يكون إلا تفريطاً في الهوية الإنسانية، والتي هي نظام ثقافي قبل كل شيء، والأخلاق جزءٌ أساسي وحيوي من هذا النظام، والأساس في هذه الهوية أنَّها عقلانية، وأنَّها تفكير، وأنَّها اختيار عاقل، وأنَّها حرية مسؤولة، ومن هذه الثوابت أيضاً، يمكن أن نذكر المدينة، ولعلَّ أهم ما في المدينة أنَّها مؤسَّسات، وأنَّها قوانين وأعراف، وأنَّها حقوق وواجبات، وأنَّها تراكمات معرفية، وأنَّها مواضعات اجتماعية.. وعليه، فإنَّ المسرحي العربي اليوم ملزمٌ بأن يعرف ما هو موجود، وأن يتصوَّر ما يمكن أن يكون له وجود، وأن يبشِّر به أيضاً، وأن يحرِّض عليه، وأن يعرف أنَّ هذه المجتمعات هي مجتمعات حية، وأنَّها بذلك متحرِّكة، ولكن في إطار ثوابت كبرى لا يمكن أن تخرج عنها. إنَّ المجتمعات الشرقية لا يمكن أن تكون إلا شرقية، وقد تسحرنا أو تخدعنا بعض العادات الغربية، ولكنَّها بالتأكيد لن تجعلنا غربيين، ولن تجعل منَّا أوروبيين، وهذا ما يجعلنا في التيار الاحتفالي نؤكِّد دائماً على حدِّ ( النحن) وعلى حدِّ (الآن) وعلى حدِّ ( الهنا) لأنَّنا نعرف أنَّ الإنسان كائن اجتماعي، وأنَّه ابن عصره، وابن بيئته، وابن ثقافته، وبهذا فإنَّنا نسعى إلى تثوير هذه الثقافة من داخلها.. وهذا ما يجعلنا أيضاً نعادي التهريب الثقافي، ونخاصم المهرِّبين الثقافيين، وكلَّ الذين يريدون إغراق أسواقنا الثقافية بالمعلَّبات المسرحية والمعلَّبات التشكيلية وبالمعلَّبات الروائية وبالمعلَّبات السينمائية..‏

إنَّ الأساس في المسرحي العربي اليوم، هو أن يكون واقعياً، وأن يراهن على الممكن، وأن تنطلق أحلامه وخيالاته من الأرض وليس من السماء، وأن يكون مدمِّراً وبانياً في نفس الوقت، أي أن يدمِّر الفاسد من العادات ومن التقاليد البالية، وأن يبني عادات أخرى جديدة، وأن يبشِّر بقيم جديدة، تكون أكثر تجاوباً مع الناس ومع لحظتهم التاريخية، وأن يؤسِّس فناً جديداً على أنقاض الفنون القديمة، وأن يعيد قراءة الكتابات الإبداعية القديمة، وأن يحيِّنها، وأن يعطيها شيئاً من عنده وأشياء كثيرة من روح هذا العصر.‏

هذا المسرح يصنع فرجته - فرجتنا؛ بتقديركَ احتفاليتُنا هل تتعرَّض الآن، أو ستتعرَّض للتكفير كما حصل مع أبي خليل القباني؟‏

- أعتقد أنَّ الحكم على مسألةٍ وقعت في التاريخ، لا يمكن فهمها وتمثُّلها ـ وبشكل حقيقي ـ إلا من خلال وضعها في سياقها التاريخي. وما وقعَ مع أبي خليل القباني في الشام، وما وقع في المغرب مع فقيه يُسمَّى «ابن الصديق» أصدر كتيِّباً وأعطاه قوَّة الفتوى وسلطتها وأسماه ( إقامة الدليل على حرمة التمثيل) وما وقع في مواقع أخرى، وفي مراحل تاريخية مختلفة، لا يمكن أن يكون إلا فعلاً طبيعياً، وجيوب مقاومة الأشياء الجميلة والنبيلة كانت دائماً موجودة، وسوف تبقى إلى ما شاء الله، ومن طبيعة الاستثناءات العابرة أنَّها لا يمكن أن تلغي القواعد الدائمة والحقيقية.‏

أما بالنسبة للعبة التكفير، فهي بالتأكيد لعبة قديمة جداً، وقد مارسها الكهنة في المعابد المغلقة منذ أقدم العصور، وبأشكال وبتفسيرات وبتأويلات مختلفة، وقد تمَّ هذا انطلاقاً من إيمان البعض بأنَّهم وحدهم يملكون مفاتيح الحق والحقيقة، مع أنَّ الأصل في المسرح أنَّه مدرسة، وأنَّ الأساس في أية مدرسة أنَّها تربية، ولعلَّ أهمَّ ما يميِّز هذا المسرح أنَّه تربية شاملة وكليَّة ومتكاملة، أي أنَّه تربية عقلية ونفسية وجمالية وروحية، وأنَّه ـ إلى جانب كل ذلك ـ حوضٌ للتطهُّر، وأنَّه مشفى للأمراض النفسية والعقلية، وأنَّه ورشة لإصلاح أعطاب المجتمع، وكلُّ هذه الأدوار كان يحتكرها رجال الدين، ولم يكن مسموحاً للعلماء والشعراء والفنانين أن يدخلوا معهم إلى هذه الدائرة المحرمة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية