تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


يُمكر بشدة الحضور

كتب
الأربعاء 22-2-2012
باسم سليمان

اللغة, هي غياب, استذكار دائم للكون والذات, وعندما يتجلى الكونُ وتشرق شمسُ الهوية, يكون الصمت؛ فالصمت في التأمل ليس شرطاً بل غاية يدخل بها المتأمِل, حالة من الحلول في الوجود وإدراك عيني لذاته, فتسقط المسافة, وتنتهي اللغة, ويحل السكون كأبلغ ما يمكن أن يكون بالحضور.

الحدس ليس لغة ولا جدلاً فكرياً تتصارع فيه الأضداد, إنه اللحظة التي تتجلى الحقيقة بكامل عريها والحدس هو نتيجة لغياب كبير, الغياب الذي يعتمل من نتيجته الفكر والشعور والحدس والتخييل والفن وكل هذه الاعتمالات, غايتها, الحضور, الشديد التمنع والماكر جداً في أن يظهر, فهكذا قالوا المتصوفة: شدة الحضور, غياب, فالغياب هو ما يجعل للحضور سيرورة وصيرورة متأبدة وخالدة.‏

الشعر, هو مكر, ضد مكر شدة الحضور, بأن تكون جيناته وخلاياه ومفاصله وروحه, تروم فتنة الغياب, لأن اللغة غياب والشعر لغة داخل اللغة, فهو غياب الغياب أي حضور.‏

«البرية كما شاءتها يداكِ» تبدو الثيمة الغياب, واضحة, فعل الحبيبة / الأنثى, الذي يؤشر لحضورها, يخفف الشاعر من مكره ويكمل جملته بكلمة « يداكِ» التي فعلتْ وغابتْ؛ لأن البرية لا تصبح برية إلا بعد تمام الفعل والانتهاء منه, مما يدل على أن الفاعل غائب أو سيغيب لكي يسمح للبرية الغائبة وراء ظل الفعل أن تحضر بعد أن انتهى الفعل, فتصبح البرية هي الحضور الذي يعيه الشاعر لغياب الحبيبة الفاعلة التي انتهتْ وهو بمخاطبته للحبيبة مذكراً إياه بالبرية التي خلقتها, يحاول أن ينشئ حدس حضورها من جديد, فلقد أصبح, هو البرية وعبر الغياب/ اللغة/ الشعر, يستذكر يد الحبيبة» أفكر../ في عبث النسيان/ في وصفة تعيد الهواء القادم من أوروبا/ محملاً بك وحدك/ وفي تفجير الصباح بأغنية/ تُعيد الأشياء إلى جنونها الأول/ والعقل إلى إجازة مفتوحة/ كياقة قميصك/ أنا صوت ناحل في البرية / نادته من خلف الخرافة يد كاليقين/ فاستفزت فيه بقية الأمل».‏

عتبة واحدة لقصيدة طويلة:‏

وكأن أديب حسن محمد, يقول للغياب جهة واحدة مهما تعددت الأبواب, فلماذا العناوين الخلبية, إنّه يعي, أن للحبيبة درباً واحداً هو الحضور لذلك وإن اشتجرت الجمل الشعرية, في قصيدته, فبوصلتها واحدة والعتبة, إن كانت مناصية, مأخوذة من جملة في القصيدة وهو إذ يفعل ذلك, يرفض أن يكون نص الغياب مسنداً, لأشياء خارج نصية, فاستحضار الحضور لا يكون إلا في التعويل على الغياب, كمؤنث يؤثث عليه ذكورة حضوره, أمام خصب الغياب الأنثوي, هذه العملية الإلقاحية, والتي تشبه أن ينثر البذار في السماء لتطلع النجوم في الليل الحالك, فيهتدى بها» اطمئني.../ ستتركين البرية جميلة/ كما شاءتها يداك/ موحشة /كما خطها غيابك/ ستتركين طيوفاً تنتشلني/ كلما امتد طوفان الكآبة ليغرقني».‏

التفاصيل كبخور يحرق‏

في مجمرة الزمكان:‏

الذاكرة, بطبعها علامات, تنتج دلالات, فالبرية كاملة الحضور والتي يعيها الشاعر كذاته, يصمت أمامها ولكنه يتكلم في جانبها الآخر, عن خالقها الغائب, وكعادة الذاكرة أن تكون انتخابية وعشوائية, تحرضها, ميتا أشياء عنها, ظهرت الحبيبة أو أثر الحبيبة كمجموعة من أحجار الفسيفساء التي على الشاعر أن يرصفها فوق البرية لتغيب, وليحصل حدوث الحبيبة» وأنت تسحبين النهار من فمي/ وتعلقينه غيمة في سمائك/ وأنت تعدّين المساء نجمة نجمة/ وتثبتين فحولة الرخام/ بلهاث مكين/ وأنت تفعلين كل شيء/ لإيقاظ وردة المنتصف/تبقين عليّ/ وترتفعين في سمائي».‏

لغة تروم أنسنة جديدة للوجود:‏

الدلالة مابين حالة الجذر الهرمي, حيث الرأس يشق التربة وصولاً للماء والجذر الجذموري حيث الدلالة تمتد أفقياً ورأسياً عبر شبكة عنكبوتية تلتقط بها, كل قطرة معنى جديد, تنوس لغة الشاعر بين هاتين الحالتين وإن كانت الحالة الأولى أكثر اعتماداً ولربما الذي فرض ذلك طبيعة القصيدة من دلالة أنثى واحدة تدخل القصيدة, فجاء القاموس الدلالي, متأنياً بالمغامرة وإن كانت طزاجته تقطر ونجد فيما ذُكر, أعلاه, مؤشراً لذلك أما الحالة الثانية :» كل بعوضة/ أرسلتها لتقرص ساقيك البضتين»,» أعدي الليل على ريح هادئة/ الريح التي أصابتها « الشقيقة»/ فشدت على رأسها عصابة السكون» في الصورتين السابقتين, هدم دلالي وبناء دلالي أنتج, مغامرة جديدة للمعنى وكأنه بذلك يمحي ما تم تأنيسه ومن ثم يؤنسنه من جديد, فتنفتح الدلالة على حياة جديدة.‏

البرية كما شاءتها يداك, قصيدة استقطرت عنب الغياب, بجودة روح خمّار, يشرب في اللون الأخضر نبيذه الأحمر, بسلاسة ارتشف أديب حسن محمد, قصيدته حتى الثمالة, وعلى مدى عيونه الذائغة, لان الكون من حوله, فطاوعه صلصال الشعر, لينجز قصيدته/ الخابية وليملؤه بخمر الشعر الذي يقول عنه:» يولد الشعر هكذا.../ من سهو صغير/ من إهمال مقصود للحياة/ عابرةً على يد لا تأبه لرنين الحضور/ المتزاحمة على رحيقها/ ولا تدير الأصابع لغير الجحيم/ مؤثثاً بما لذ وطاب من أشيائك/ فليكن...».‏

البرّية كما شاءتها يداك – قصيدة – للشاعر أديب حسن محمد صادرة عن دار الغاوون لبنان 2011‏

Bassem-sso@windowslive.com

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية