على أن يقوم الأدب بوصفه أدباً بممارسة السياسة، وهي تفترض أنه لا مكان للتساؤل في ما إذا كان على الكتاب أن يمارسوا السياسة أم لا مكان للتساؤل في ما إذا كان على الكتاب أن يمارسوا السياسة أم، في الأحرى، أن ينذروا أنفسهم لنقاء فنهم، بل إن في هذا النقاء نفسه ما يربطه بالسياسة، كما تفترض وجود صلة جوهرية بين السياسة بوصفها شكلاً خاصاً من الممارسة الجماعية والأدب بوصفه ممارسة محددة لفن الكتابة.
لقد اقترح سارتر في كتابه (ما هو الأدب؟) نوعا من اتفاق بالتراضي، وكان يقول إن الشعراء يستخدمون الكلمات على أنها أشياء، فعندما كتب رامبو (أي نفس بلا عيوب) من الواضح أنه لم يكن يطرح أي تساؤل لكنه كان يجعل من هذه الجملة مادة كثيفة، إذاً ليس هناك من معنى نتكلم عنه بخصوص التزام الشعر، وفي المقابل فإن الكتاب يتعاملون مع الدلالات، فهم يستخدمون الكلمات على أنها أدوات تواصل فيجدون أنفسهم ملتزمين، عن قصد أو غير قصد، في مهام بناء عالم مشترك، وجاك رانسيير يعتبر أن هذا الاتفاق بالتراضي لم يقم بتسوية أي شيء، فبعد أن رسخ سارتر التزام النثر الأدبي في استخدام اللغة بالذات توجب عليه في الحال أن يفسر لماذا حول كتاب مثل فلوبير وسيلة الاتصال الأدبي إلى غاية بحد ذاتها، ما اضطره لأن يجد سبب ذلك في التقاء العصاب الشخصي لدى فلوبير الشاب مع الوقائع القائمة لصراع الطبقات في عصره، فكان عليه إذاً أن يبحث في الخارج عن تسييس الأدب الذي كان يزعم أنه أسسه في استخدامه الخاص للغة، وهذه الحلقة المفرغة ليست خطاً فردياً، فهي ترتبط بالرغبة في تكوين خصوصية الأدب اللغوية، وترتبط هذه الرغبة نفسها مع تبسيط الصيغة الحديثة للفنون، وهذه الصيغة ترمي إلى تكوين استقلال هذه الفنون على أساس ماديتها البحتة، ما يستوجب إذاً المناداة بخصوصية مادية للغة الأدبية، بيد أنه يتضح بجلاء أنه لا يمكن العثور على هذه الخصوصية، في سبيل تحديد نظام التصوير الخاص بالأدب وسياسته؟
من يواجه جاك رانسيير قراءتين سياسيتين لكاتب واحد ينظر إليه على أنه ممثل نمطي للاستقلالية الأدبية التي تخلص الأدب من أي صيغة دلالية ظاهرية وأي صيغة للاستخدام السياسي والاجتماعي، ففي (ما هو الأدب؟) يجعل سارتر من فلوبير بطل هجمة ارستقراطية على الطبيعة الديمقراطية للغة العادية، وقد أخذت هذه الهجمة برأيه بشكل تحجر في اللغة:
إن فلوبير يكتب كي يتحرر من الناس والأشياء فجملته تطوق الشيء، تقبض عليه، تجمده، تنغلق عليه، تتحول إلى حجر فتحجره بداخلها.
كان سارتر يرى في هذا التحجر مساهمة أبطال الأدب الصرف في استراتيجيا البرجوازية، إذ كان (فلوبير) و(مالارميه) وزملاؤهما يزعمون رفض صيغة التفكير البرجوازي ويحلمون بارستقراطية جديدة تعيش في عالم من الكلمات المصطفاة ينظر إليه على أنه حديقة غامضة من الأحجار والأزهار الثمينة، لكن هذه الحديقة الغامضة ليست سوى الإسقاط المثالي لخصوصية النثر، فمن أجل تشييد هذه الحديقة كان على هؤلاء الكتاب أن ينتشلوا الكلمات من استخدامها التواصلي فينتزعونها بذلك من أولئك الذين يمكنهم أن يستخدموها كأدوات في الجدل السياسي والنضال الاجتماعي، كان التحجر الأدبي للكلمات والأشياء يخدم إذاً، على طريقته الاستراتيجية العدمية لبرجوازية شهدت إعلان موتها على متاريس باريس في حزيران - يونيو 1848، وسعت لتجنب قدرها عبر كبح جموح القوى التاريخية التي أطلقت سراحها.
إن الجدة التاريخية التي يعبر عنها بعبارة (أدب) تكمن في أنه ليس في لغة خاصة بل في طريقة جديدة للربط بين المقول والمرئي: بين الكلمات والأشياء، إن هذا هو محل انتقاد أبطال الآداب الجميلة التقليدية لفلوبير ولجميع صناع هذا التطبيق الجديد لفن الكتابة الذي يسمى أدباً، فهم يقولون إن هؤلاء المجددين قد فقدوا معنى الفعل والدلالة الإنسانيين وكانوا يريدون أن يقولوا بذلك إنهم فقدوا معنى نوع معين من الفعل وطريقة معينة لربط الفعل بالدلالة.
عقب دراسة مستفيضة لنصوص فلوبير وهوغو وفلسفة سارتر وأشعار رامبو، يخلص إلى أنه لا توجد سياسة واحدة للأدب، وعن بورخيس يقول: (إن كل الحيل وكل الشخوص المنعكسة التي تسكن عالم (بورخيس) يمكن أن تدرك على أنها تفنيد لحادث مصطنع وحيد، أو لزوج وحيد من الشخوص إنها تفنيد مستمر للمقعد الذي جلس عليه بوفار وبيكوشيه وفلوبير معهما - منكبين على الكتابة الدائمة، إذا ما كان بوفار وبيكوشيه مخطئين في الاعتقاد بإمكان تحقيق قوة حياة فائقة في لا شخصانية الكتاب الكامل الذي يروي وهم شخصياته، وهو حين ثبت (دون كيشوته) و(سانشوبانشا) في عمل من هم في خدمة الكتاب، فقد أغلق الحركة اللانهائية للتبادل التي هي حسب بورخيس جوهر القوة الأدبية: التبادل بين سرفانتس، ودون كيشوت بين دون كيشوت ورولان بين راوي كيشوت وسرفانتس الجندي وأي قارئ لمغامرات هؤلاء الأشباح.
هناك لدى بورخيس كما لدى أفلاطون، تداول جيد وتداول سيئ للكلمات، التداول السيئ هو تداول الرسالة التي لا تتحرك إلا من أجل أن تغلق التبادل: كتاب لا ينتهي، كلمة تقول كل شيء، أما التداول الجيد فلم يعد كما هو لدى أفلاطون، تداول كلام المعلم، بل هو تداول الحلم الذي يمكن تقاسمه، إن الخيال العقيم هو خيال حلم لا يستطيع أي شخص آخر أن يحلم به، وإن فلوبير الذي يروق له أن يدخل في (أحلام الفتاة الشابة إيما) يرفض أن تحلم هي به.
إن التداول الجيد هو تداول حلم يمكن أن يحلم به بدوره، أو حلم به مراراً لا تحصى لأنه هو نفسه قطعة من حلم هو العالم، هنا بالطبع الانقلاب الدقيق لما كان يشكل برنامج فلوبير وفكرة الأدب: الصفحة المنقوشة على الرخام مقابل التلاشي (الشاعري) للحلم أو مقابل بريق المصباح السحري في غرفة طفل إن ما يصفه (بورخيس) مقابل التكرار اللانهائي للنسخة هو التبادل اللانهائي للأمكنة بين الحالم ومادة الحلم، وهو التكرار اللانهائي أيضاً للحلم حيث على الكاتب أن يتلاشى كي يفي بوعده في أن يكون عالماً، أدب مقابل أدب، ما يعني لا شخصانية مقابل أخرى، لكن هذا يعني أيضاً إلغاء الأدب ذاته مقابل أدب آخر، إن المقالة التي تفضح الأخلاقية الفاتنة للقارئ تفضي إلى مقطع مخيب للوهلة الأولى: وعد أدب يكون (جديراً بأن يتنبأ بزمن يصبح فيه أخرس فينقض على مزاياه ويشغف بذوبانه ويغازل غايته، إن هذا المستقبل، كما يقول بورخيس يتضح في ممارسة القراءة الصامتة، وهذا الصمت الذي كما يراه - جاك رانسيير أنه يتعارض مع التفخيم الفرنسي، أي بصورة خاصة، ولو لم يقل ذلك مع تشدق فلوبير الشهير.
الكتاب ضم ثلاثة أبواب حول فرضيات سياسة الأدب وتناول شخصيات روائية مثل إيما بوفاري كمثال للدراسة وبورخيس وسياسة ملارميه الأدبية وتولستوي والأدب والتاريخ وقدم دراسة لتقاطعات مهمة بين المؤرخ والأدب والحقيقة الفرويدية.
الكتاب: سياسة الأدب. - تأليف: جاك رانسيير. - ترجمة: سهيل أبو فخر. - صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب. - قطع متوسط في 240 صفحة.