وتوصي به صديقها الأديب الفرنسي الشهير غوستاف فلوبير وكانت تجمع له حكايات ليستخدمها مواضيع لقصصه وتصحح له تجارب كتبه، ورث غي دوموباسان عن أمه أيضاً ميلها للبؤس وللتعاسة وطابعها الكئيب القلق، وعصابها كانت لور موباسان امرأة مريضة تعيش كمتنسكة، وقد حاولت الانتحار غير مرة بخنق نفسها بشعرها الطويل كان غي دوموباسان يحب الحياة بيد أن شعوراً بالشيخوخة والانحطاط والسقوط المحتم والسأم العميق والتفتت الذي لا يمكن الشفاء منه، كل هذا كان يلازمه باستمرار.
أمضى غي دوموباسان فترة شبابه الأولى كتلميذ هارب على شاطئ البحر النورماندي ذي الشاعرية الفظة التي تركت أثرها واضحاً في نفسه إلى آخر أيام حياته، عاش غي دوموباسان أزمة 1870 - 1871 ثم عاش على مدى عشر سنوات كموظف عادي يقسم ساعات فراغه بين مباريات التجديف للمراكب، وبين تدريب قاس على يد أستاذه غوستاف فلوبير، وعندما بلغ الثلاثين من عمره، نضجت ثقافته تقريباً، وفي العام نفسه نشر رواية (بول دوسويف) التي فرض نفسه فيها كاتباً متميزاً في نظر الجميع.
أراد غي دوموباسان أن يصبح اسمه الذي ورثه عن أبيه اسم كاتب شهير، ينبذ الفقر بمال ينفقه ويضيعه على الترف والملذات وبذلك يستقطب ود وحب النساء جميعهن، وهذا ما جعله يعزف عن الزواج، ثم لأن الزواج بنظره يقضي على الابداع، وانطلاقاً من هذه النظرة فقد انكب على الكتابة، فكتب خلال اثني عشر عاماً مجموعة قصصية وست روايات وثلاثة مجلدات من حكايات الرحلات ومئات الأخبار، كل هذا في وسط حياة مدنية متخبطة مليئة بالحوادث، وربما كان سبب هذا النشاط المحموم هو هاجسه بنهايته المبكرة، ففي كانون الثاني من عام 1892 توقفت آلية الحياة القوية عن الابداع وبعد عراك طويل مع المرض يشبه الاحتضار دام ستة عشر شهراً مات غي دوموباسان عقب حالة من الشلل العام، لم يلمع نجم غي دوموباسان في المسرح، فما الذي كان ينقصه يا ترى لكي ينجح في المسرح؟ كان ينقصه شيء قليل وكثير من الوقت ذاته، لم يكن يشعر بأن لديه الموهبة الكافية للكتابة المسرحية، وبأن أفكاره في هذا الفن يمكن أن تطبق، فهذا الفن الدرامي لم يكن يسليه إلا قليلاً، يعترف بنفسه بأنه لم يدخل ثلاثين مرة في حياته إلى صالة عرض لأنها طالما بقي غريباً عن تقاليد المسرح ومتشككاً أمام الأسرار الضخمة لهذا الفن، لقد كان غي دوموباسان يظهر تجاه هذا الجنس الأدبي بغضاً عجيباً، وفي أكثر مرة شن هجوماً منهجياً على هذا الفن في قوله ذات مرة: (ما أشد حماقة مسرحيات الصالون لهذا الموسم كل شيء فيها متكلف ومصطنع وفظ وثقيل، مزاجها يكاد يشبه كرات المدافع التي تحطم كل شيء، لا يوجد فيها أي ابداع أو أي ألمعية ذهنية، كما أنها خالية من أي ابتهاج أو لباقة).
في هذا الجنس الأدبي لم يكن غي دوموباسان يجد القدرة على فرض بعض التغييرات والتحولات التي كان يتمناها، وهي دقة ووضوح التحليل بشكل خاص، هذا الأمر الذي حاول موباسان أن يضعه موضع التطبيق في مسرحيته (تاريخ الزمن القديم) ومسرحيته (إعادة) ورغم هذه الأحكام الوقائية لم يكن المسرح يشكل لغي دوموباسان جانباً مسلياً، لقد أدرك أن المسرح يفرض على المرء بعض الشروط التي سيتقيد منها في كتاباته، لقد أدرك أنه يتوجب عليه قبل كل شيء أن تكون تعابيره واضحة ومكثفة.
كتب موباسان عدة مسرحيات (خيانة الكونتيسة دورون ومسرحية الزمن القديم ومسرحية الوئام العائلي، ومسرحية إيفيت) كانت مشاريع موباسان الدرامية ورشة واسعة دائمة متواصلة السير، غير أنه لم يخرج منها في نهاية المطاف أي تحفة أدبية، إذ لم يكن موباسان مرتاحاً للصيغ الواقعية لعصره، ولا لقيود الإخراج التي يفرضها المسرح على الطريقة الإيطالية، بالتأكيد ربما كان غي دوموباسان يفضل مسرحاً أكثر تحرراً وابتكاراً وابداعاً مثل مسرح شكسبير الذي ورث حبه عن أمه التي قرأته في شبابها بالإنكليزية ثم قرأته لابنها بالفرنسية، وكان موباسان يكثر من الاستشهاد به لشدة إعجابه بفنه.
إن اسم غي دوموباسان لم يلمع في عالم المسرح إلا مع مسرحيته (موزوت) التي كان يقول فيها: (ها آنذا) كاتب درامي شعبي ناجح وذو حظوة وإنني لشديد الدهشة من هذا لأنني لا أظن أنني اكتشفت هذا السر الدرامي الشهير الذي ليس في وسع الروائيين اختراقه.
في هذه المسرحية (الوئام العائلي) المترجمة حديثاً إلى العربية والتي عرضت للمرة الأولى في باريس على مسرح الكوميديا الفرنسية يوم الاثنين 6 آذار 1893، قدم فيها صورة عن المجتمع الباريسي الذي تسود فيه السلطة الذكورية، التي تعطي لنفسها حقوقاً تستمدها من القانون الذي تلجأ إليه لتسوغ مواقفها وأخطاءها تحتمي وراءه لتخضع المرأة لأهوائها ورغباتها وتحاول هذه السلطة امتلاك المرأة وتشيئها بشكل عدواني وسادي، جعل الكاتب مسرحيته هذه تتنفس في بيئة عصرية وقريبة من الواقع أو جعلها هي الواقع ذاته، وقد جعلنا الكاتب نحس إحساساً قوياً ببيئة المسرحية، فلم يجعل شخوصه مثالية مجردة، فالبيئة واضحة في المسرحية، ولعل ذلك هو الذي يقربها من نفوس القراء، وقد ساعد على رسم هذه البيئة ما يحمله الحوار من شواهد تحدد المعالم التي تدور فيها حوادث المسرحية والملامح المميزة لوسطها هذا الحوار سهل، قريب من الحديث الدارج العادي، ومطابق لواقع الشخصيات، وهو قصير في الأغلب مع بعض الطول أحياناً ويكاد يخلو من البريق الأدبي وهذه ملاحظة على الحوار، إذ كان من المفروض أن يجعل الكاتب حواره يبرق أدبياً مع سهولته، ليقرب النص أكثر من جو الأدب، ومع ذلك فالحوار يشكل في المسرحية حبكة الحدث، هذا الحدث الذي يبدو بسيطاً، إذ يلاحظ القارئ من أول المسرحية إلى آخرها أن غي دوموباسان يذهب في عمله هذا إلى هدفه مباشرة ودون تعقيد، ويتجنب كل ما من شأنه أن يثقل الحدث الذي ينتظم بتوازن كامل متكامل، فالهدف من هذه المسرحية هنا واضح، وهو نقد المجتمع الظالم وتبيان ثغرات القانون المدني، وقد أجاد الكاتب في رسم هدفه وإغنائه من خلال الحوار والحركة، فوجه الناس بأسلوب غير مباشر يخلو من الوعظ والإرشاد.
وهذه المسرحية توافق موضوعها وهدفها فالموضوع سهل يسير غير معقد، وعقدة المسرحية من النوع الخفيف كما أن الحوادث إجمالاً مرتبة ترتيباً موجزاً حاسماً كان مناسباً لتبيين عقدة المسرحية وسطوع شخوصها وتدفق حوارها وإمساك القارئ والمشاهد في خط مسيرة المسرحية من البدء إلى الختام، فالحبكة لا تتيح الفرصة لأي لبس أو غموض، ويصبح اللعب بالمشاعر الدعامة الحقيقية للفائدة وللأهمية الدرامية.
الأبطال هم ثلاثة رئيسييون: الزوج والزوجة والعشيق، هذه الشخصيات تحلل نفسها بنفسها، وتتكلم عن نفسها عن آلامها وآمالها، وتسأل كل شخصية الشخصية الأخرى، وتصغي إلى رأيها وحكمها، وتتجاوب كلمة بكلمة وجملة بجملة، وهذا يخلق حواراً ذكياً وسريعاً تتفاعل من خلاله الشخصيات، وتظهر في صورة نابضة بالحياة، بعيدة عن القوالب الجامدة والأنماط المكررة.
الكتاب: الوئام العائلي / مسرحية. - تأليف: غي دوموباسان. - ترجمة: د. عبد الهادي صالحة. - صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب. - قطع صغير في 118 صفحة.