ولو بشكل غير مباشر، فما أن تقول كلمة: (أحَد وأحديّة) حتى ينصرف الذهن، تلقائيّاً إلى الصّمديّة القرآنيّة: (قلْ هو اللّهُ أحَد)، فما هو معنى (أَحَدَ) اللّغوي ؟
جاء في المنجد، ونذهب إليه اختصاراً لأنّه أكثرمواءمة لطبيعة ماهو صحفي، أو شبه صحفي، ويومي، وقد جاء فيه:
أَحّدَ، وَوَحَّدَ المتعدّدَ: صيَّرَهُ واحداً،
الأحد، الواحد، الوحيد: أوّل العدد،
الأحديّة: الاسم من أَحَد،
ولعلّ المعنى التأليهي، التّوحيدي، كان أكثر علوقاً بهذه المفردة، بحكم المساحة التي أخذها (التّوحيد) في الفكر العربي الإسلامي، الأمر الذي فتح آفاقاً عالية لدى المشتغلين بذلك العلم، ولدى الصوفيين المسلمين، ولدى الذين مازجوا بين شيء من الفلسفة والدّين، وهكذا اتّسعت رقعة حضور هذه المفردة، وازدادت سفَراً في عمق الدّلالة، وفي إحالات المعنى الذي تلوّن بشيء من حضور المطلق الذي اقتضته طبيعة البحث في الموضوع، فلم يعد فعل (أَحّدَ، وَوَحَّدَ) مقتصراً على دلالته اللّغويّة، بل علقت به تلك المعاني الفكريّة، المُضافة، فخصّص المتديّنون، على اختلاف آرائهم، الأحديّة لذات اللّه، العليّ، الأعلى، واعتبروا أن الواحديّة لاتليق بذاته تعالى، لأنّ الواحد يدخل في العدد، وإن كان أُسّه، ومبتداه، واللّه منزّه عن ذلك، وجرياً على الأخذ بالاشتقاق في اللّغة فقد اشتقّوا من مفردة (أحد) صيغة (الأحاديّة)، يلفظونها بفتح الألف تارة، وبضمّها أخرى، للدّلالة على ماهو أكثر اتّساعاً، وخصوصيّة، وعلوّاً من الواحديّة، مشيرين ضمناً إلى مايشبه التّفرّد الأحدي، في أمر ما،
هذه الأحاديّة، في بعض مساحات الفكر، أو ماليس له غنى عن اعتماد الأسس الفكريّة، للتأسيس، أو للتوضيح، أو للدّفاع عن فكرة، أو وجهة نظر،.. هذه غلبت على أكثر ممّا تقتضيه طبيعة المقام والمقال، أحياناً، فأخذت سطوة الحضور اللّغوي، بدلالاته القريبة والبعيدة، وأصبحت يافطة، وعلامة، على أكثر من منتج فكري، فثمّة (أحاديّون) بعدد الذين يزعمون، أو يتوهّمون أنّهم لاتليق بهم إلاّ (الأحاديّة)،!! وهذا ينسحب على مساحات التّطرّف، حيث وُجدت، لافرق في الدّرجة بين أن تكون في الحقول المذهبيّة، والطوائفيّة، والفِرَقيّة، أو أن تكون في حقول السياسة، والفكر، والأدب، فثمّة مَن هم سواء في ذلك على اختلاف ألوان الدّرجات القائمة، أو المحتملَة،
ترى مَن أين جاءت هذه (الأحاديّة)؟
لاشكّ أنّ بدءها كان من زعم التّفرّد، والتّعالي، وعدم الإنسجام النّظري، والعملي مع مبدأ: التّعدّد، وهو، بوعي، أو بدون وعي، ذهاب إلى التّشبّه بوحدانيّة الذات العليا، حتى وإن لم يقصد جميع الأحاديّيين هذا، فهم يمارسونه عمليّاً، وبدلاً من اعتماد تلك المقولة الواسعة الرّحابات: «رأيك خطأ يحتمل الصحّ، ورأيي صحّ يحتمل الخطأ».. بدلاً من هذا ذهب البعض إلى أنّهم وحدهم أصحاب الصحّ، وكلّ من خالفهم في أمر فهو على خطأ، هذا إن قبلوا التّخفيف في عدم قولهم بضلال الآخرين،
زَعْمُ التّفرّد هذا.. تُرى أكان بدؤه أسبقيّة فكريّة، أم كان من تأسيس سلطوي، بمعنى السّلطة التي تبدأ (سُلطة) قابلة لأن تكون عادلة، ولأن تكون ظالمة، فغلبت عليها لواحق (التّسلّط) بحكم تراكم المظالم في السّلطات المتعاقبة تاريخيّاً، والتي انجرّت وراء رغبات فرديّة، ومكاسب فئويّة،.. ممّن كان البدء ؟،
سؤال قد يُدخلنا في متاهة المماحكة، ولأنّ الغاية ليست إثبات هذه أو تلك، نستطيع القول أنّ (المرجّح) أنّها بدأت من السّلطة الدنيويّة، لأنّ مساحة الفكر، بحكم طبيعة الفكر ذاته، وبحكم طبيعة المشتغلين فيه،.. يظلّ احتمال أنّ أهل هذا الميدان (الفكر) يميلون بطبيعتهم الغالبة إلى قبول الآخر، وليس رفضه، أو إعدامه، أو طرده من الرّحمة التي تتّسع لكلّ شيء، وحين انتقلت السّلطة من (شيخ القبيلة) الذي تفرض عليه طبيعة القبَليّة، وموروثها التّشاور، والتّعايش، مع مجموعته،.. حين انتقلت من ذلك الطّور إلى طور الدّولة المدينيّة وجدت بذرة الإستئثار، والتّفرّد، والتّشبّه بالإله، أو إعلان أن من بيده الصّولجان هو ظلّ (الإله)،..فافتتحتْ مجلى للحضور، ولا شكّ أنّ من كان على دين الملك من أهل الفكر، والإعتبار، قد شايعوا صاحب الصّولحان، وليس بالضرورة أنّ موافقته كانت عن قناعة وإيمان، بل طلباً، في الغالب لمكاسب دنيويّة، وأخذوا، في حدود مساحات حضورهم من التّفرّد، والأحاديّة ماسمح به صاحب السّطوة،
إنّ تاريخنا العربي الإسلامي لم يخرج عن هذه القاعدة، منذ أن بدأ المجتمع الذي أرسى دعائمه محمد بن عبد الله بالتحوّل من منهج نبويّ إلى دولة صولجانيّة، على غرار ماعرفتْه مجتمعات تلك الأزمنة، وكان لهذا إفرازاته الماديّة والمعنويّة الفكريّة التي حفلت بها كتب التّاريخ، عدا التماعات هنا وهناك، كالتماعة عمر بن عبد العزيز الذي ردّ المظالم، واراد السّير على نهج الإستقامة، والعدالة، واعتبار الخلافة خدمة للرعيّة لاامتيازاً، فلم يمهله أصحاب الأرستقراطية الأمويّة من أبناء العمومة، وقيل إنّه مات مسموماً، و..عدا تلك الفترة الزمنيّة التي كان فيها أصحاب الأفكار، والدّيانات، والملل، والنِّحل، يلتقون في مجلس واحد بحضور الخليفة المأمون، فيتجادلون، ويتناقشون دون أن يخاف مُحاور من أن يفقد رأسه، أو يُسجَن بسبب رأي يراه، غير أنّ هذه الفترة لم تطل فقد عمد المأمون المنحاز لرأي المعتزلة لاضطهاد كلّ من يخالف رأيهم، وخاصة في مسألة هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق،؟ وآزره بالحدّة ذاتها المصنّفون في خانة الفكر، من القائلين بتلك المقالة، فالتقت سلطة السيف بسلطة القلم على بساط واحد، وأماهما نِطع معَدّ لقطع الرؤؤس، وبعد ذهاب المأمون جاء من اعتمد الأحاديّة ذاتها في ملاحقة من يقولون بقول المعتزلة،
من هذا الإرث (السّلطوي) بحدّي حضوره، السّلطوي والفكري، تكرّست في الذهن فكرة الأحاديّة، لاسيّما وأننا مجتمعات لم تعرف التّعدّدية إلاّ عبر لمعات إنسانيّة، وأردنا، في حراكنا النّهضوي المعاصر، الذي بدأ التبشير به مع مطالع القرن العشرين، ومازال حلماً يراودنا،.. ظللنا ننشد التّعدّديّة، والديموقراطية، بصيغتها الغربيّة، فلم نبلغ ماأرادته القوى الوطنيّة القوميّة التّقدميّة عبر برامجها المحترمة، إلا عبر التماعات عابرة، مبشّرة ولم تبلغ مرحلة النّضج، والإثمار، بل كانت هنا وهناك، وهكذا، رغم معاصرة الأفكار، واستفادتنا من معطيات العصر النّظريّة، على اختلاف مناهلها، فقد ظلّت (الأحاديّة) علامة فارقة، تحفر، وتتجذّر، بمثولات متعدّدة، ومآل واحد، فهانحن على مستوى الأنماط الشعريّة، يرفض البعض التّعددية، ويكرّس أحاديّة وجهة نظره التي تخصّه شخصيّاً، ولا أقول (تعجبه) لأنّ الإعجاب يقوم على شيء من المفاضلة بين أمرين، أي على شيء من التّعدّديّة، كما تنهض من موقع الحساسية، والتّمييز، بينما (مايخصّه) يقوم على (الأنا) التي قد تكون ذاتاً، أو نمطاً، وليس الأمر أحسن حالاً في تبنّي بعض المدارس النّقديّة الأدبيّة، ففي فترة ما، كانت الماركسيّة، وها نحن الآن أمام البنيويّة، والتّفكيكيّة، وأحاديّي قصيدة النّثر،وأحاديّة التّكفيريَين، وإلغائيّي هذه الشلّة أو تلك، في وقت يمتليء فيه المكان بـ (الكلام) عن الديموقراطيّة، والتّعدديّة، والاغتناء بالآخر، فأيّ انفصام مفزع نحمل؟!!
al_naem@gawab.com