وقد اختلط هذا الجدل بجدل آخر لا يقل سخونة عنه يتعلق بالتمويل الأجنبي للمنظمات أو الجمعيات الأهلية المصرية، فمن جهة تتمسك القاهرة باستمرار تدفق المعونة الأميركية لمصر باعتبارها جزءاً من الثمن الزهيد الذي قبضته مقابل اتفاقية كامب ديفيد، ويلتبس الأمر على بعض المسؤولين المصريين لدرجة أن يتوهموا أن هذه المعونة تشكل عماد الاقتصاد المصري ورافعته وشريانه الوحيدين، ومن جهة أخرى تفتح السلطات المصرية تحقيقا قضائيا يتناول موضوع تمويل جهات أميركية وغربية للمنظمات الأهلية المصرية باعتبار أن مثل هذا السلوك يشكل تهديدا ومساسا بالسيادة الوطنية من باب مخالفته لأغراض الترخيص لهذه المنظمات والعمل في المجال السياسي.
في المقابل تهدد الولايات المتحدة مصر بقطع المعونة الاقتصادية وتستخدمها كجزء من الضغط السياسي على النظام الذي يتشكل حاليا لكي يستمر في رعاية المصالح الأميركية في المنطقة، ويحافظ على اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، في حين تصر الولايات المتحدة على تقديم الأموال للجمعيات الأهلية في مصر كجزء من خطتها لمصادرة الثورة المصرية وآمال الشعب المصري في التغيير والديمقراطية.
ولمعرفة من المستفيد في كلتا الحالتين ومن المتضرر لابد من الإضاءة على قضية المعونة وظروفها، فكما هو ثابت فإن المعونة الأميركية لمصر والتي أخذت طابع المساعدات الاقتصادية والعسكرية كجزء من «اتفاقية السلام» المصرية الإسرائيلية عام 1979 تبلغ 2,1 مليار دولار منها 810 ملايين دولار معونة اقتصادية، و1,3 مليارات دولار معونة عسكرية، وهي تشكل ما يقارب 57 بالمئة من إجمالي ما تحصل عليه مصر من معونات ومنح دولية سواء من الاتحاد الأوروبي واليابان وغيرهما، وهذه المعونة لا تتجاوز 2 بالمئة من إجمالي الدخل القومي المصري.
الأهداف المعلنة لهذه المعونة كانت تنمية الاقتصاد المصري وجعله قادراً على المنافسة وتحقيق الاستفادة العادلة لجميع المصريين، ولكن تبين فيما بعد أن هذه المعونة كانت توضع في حساب رموز النظام البائد، ولم يكن لها أي تأثير يذكر في الاقتصاد المصري أو في معيشة المصريين، ويذهب البعض إلى أنها كانت سبباً في تردي أوضاع الاقتصاد المصري لأنها رتبت على مصر دفع أثمان باهظة في مقابلها، حيث ترتب على هذه المعونة مخاطر وتداعيات من أهمها:
ـ السماح للطائرات العسكرية الأميركية باستخدام الأجواء المصرية، وكذلك السماح بعبور 861 بارجة حربية أميركية لقناة السويس خلال الفترة من 2001 إلى 2005 مع ما يتطلبه ذلك من توفير الحماية الأمنية اللازمة لعبورها.
ـ إقامة مشفى عسكري في مصر وإرسال أطباء منه إلى قاعدة باغرام العسكرية في أفغانستان حيث تلقى أكثر من 100 ألف مصاب أميركي الرعاية الصحية بواسطته بين عامي 2003 و2005.
ـ قيام مصر بشراء معدات عسكرية أميركية بحوالي 1,2 مليار دولار إضافة إلى ترويج المنتج الأميركي في مصر..
ـ التعاون الأمني والاستخباراتي بخصوص الحركات والجماعات الإسلامية وتأمين حدود الكيان الصهيوني.
ـ انكشاف مستوى التدريب والتسليح في الجيش المصري أمام الخبراء الأميركيين بما هدد بشكل مباشر الأمن القومي المصري.
وكان لهذه المعونة آثار سياسية واقتصادية سلبية على الوضع المصري بحيث سمحت بتدخل أميركي مباشر في رسم سياسات مصر بمسائل حيوية كالتعليم والإعلام وشؤون المرأة، كما أعطت للجانب الأميركي امتيازات في عبور قناة السويس من حيث حجم العبور وسرعته ورسومه المتدنية، كذلك اعطت للأميركيين حق التدخل في تحديد بعض الصناعات الثقيلة والزراعات الإستراتيجية كالقمح والقطن، وأتاحت الفرصة لمنظمات حقوقية مصرية وأجنبية ممولة أميركيا بالعمل والحركة داخل المجتمع المصري، كما أفرزت هذه المعونة طبقة من رجال الأعمال ترى مصالحها مع إسرائيل والولايات المتحدة ما جعلها تقاتل في سبيل حماية المصالح الأميركية والاسرائيلية في مصر.
وعلى المقلب الآخر تبين أن الولايات المتحدة متورطة في تمويل جمعيات أهلية في محاولة سطو غير معلن على ثورة 25 يناير، وقد كشفت وزيرة التعاون الدولي فايزة أبو النجا أن نحو 200 مليون دولار دخلت مصر في الفترة الأخيرة دون علم السلطات المصرية منها 40 مليون دولار أميركية لتمويل أنشطة مجهولة داخل مصر، وقد أثار هذا الكشف حنق السلطات الأميركية لدرجة تهديد واشنطن بوقف المعونة السنوية وقطع العلاقات مع القاهرة.
هذا السلوك الأميركي يكشف بوضوح الدور التخريبي الذي تقوم به واشنطن في المنطقة وخاصة في مصر بعد سقوط مبارك، ومن الغباء الاعتقاد بأن واشنطن ستقف مكتوفة الأيدي وهي ترى أكبر دولة عربية مجاورة للكيان الصهيوني تتشكل من جديد بأيدي أبنائها الباحثين عن دور محوري لبلادهم في قضايا المنطقة وصراعاتها وخاصة الصراع العربي الصهيوني الذي اعتزلته مصر مبكرا، لذلك لن تتوقف المحاولات الأميركية عن اللعب في الساحة المصرية لإبقاء القاهرة قريبة من إسرائيل بعيدة عن أمتها، وما الفوضى والضياع الذي تعيشه مصر حاليا سوى بعض تجليات التدخل الأميركي في شؤونها، وهذا ما يفرض على المصريين قرارات حاسمة تقطع دابر هذا التدخل وإن كانت كلفتها قطع معونة مشروطة برهن القرار المصري ومصادرته.