تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الروضة والعاطلون عن العمل

ســـــاخرة
السبت 12-11-2011
معتصم دالاتي

منذ ما يقرب من ثلاثة عقود خلت، ارتأى رئيس بلدية حمص آنذاك إقامة مشروع عصري ضخم وهو مجموعة من الأبراج الدائرية البالغة الارتفاع، وقد نشرت يومها الصحيفة المحلية صوراً مجسمة للمشروع،

وكان يمكن لهذه الأبراج التي لم تألفها المدينة ولا سكانها أن تكون معالم بالغة الحضارة والجمال، لكن أهل حمص ثارت ثائرتهم، وهبوا يكتبون في الصحف ضد هذا المشروع، وأخذوا يجمعون التواقيع على العرائض لإيقاف العمل به، ذلك أن تلك الأبراج رغم مايمكن أن تضفي على المدينة من مشهد جمالي وحضاري معاصر، إلا أنها كانت ستقضي على روضتهم الأصيلة فالأبراج المقترحة كانت ستقام على أرض مقهى الروضة، وقد صعب على الحمامصة التفريط بذاك التاريخ الأصيل، فالأبراج يمكن أن تجد لها مساحة في أي مكان من المدينة، أما الروضة فلا يمكن التفريط بها لأنها جزء مهم من الجغرافيا والتاريخ للمدينة وقد نجح الحمامصة يومها في مسعاهم فجاءت الأوامر من أعلى المستويات بدمشق لصرف النظر عن مشروع الأبراج ولتبقى الروضة على حالها كرمى لعيون أهل حمص.‏

ترى هل الروضة مجرد مقهى قديم ومتسع يؤمه الناس لتزجية الوقت بلعب النرد وورق اللعب وتدخين الأراكيل.‏

هو الآن كذلك لكن تاريخه مغاير تماماً لما آل إليه الآن.‏

في عام 1930 وفي الجناح الشتوي الذي كان مسرحاً شدا فيه مطرب الملوك والأمراء محمد عبد الوهاب بأجمل أغانيه كما أن المطرب المعروف محمد عبد المطلب كان ضمن كورس عبد الوهاب في تلك الحفلة ناهيك عن الحفلات المتعددة الأخرى والفرق التي استضافها هذا المكان.‏

لكن الأهم من ذلك أن مقهى الروضة كان مسرحاً ثقافياً وأدبياً وسياسياً لعقود طويلة خلت من الزمن، ذلك أن أعلام تلك الميادين ومن جميع المحافظات كانت الروضة ملتقاهم، ومن الوزارات تم تشكيلها أو الانفاق عليها وكم من الطبخات السياسية والنقاشات والاتفاقات والتكتلات والخصومات أيضاً كان مقهى الروضة شاهداً عليها، فمدينة حمص تتوسط محافظات القطر وبالضرورة فإن رجال السياسة وزعماء الأحزاب من حماه وحلب وباقي مدن الشمال كانت استراحتهم في الروضة وهم في طريقهم إلى العاصمة، وأيضاً رجال الجنوب والاتجاهات الأخرى لم يكن لهم محطة سوى الروضة في حمص وتلك لم تكن مجرد محطات لاحتساء القهوة فحسب.‏

كان مقهى الروضة هو الملتقى اليومي لمجموعة الأفندية أي كبار الموظفين حين كان موظف الدولة هو أفندي بحق وحقيق بالإضافة إلى النخبة الثقافية والطبقة الثرية والبكوات.‏

منذ الربع الأول من القرن الماضي، وحتى عقود طويلة كانت الروضة محافظة وحافظة لكل معالمها بأشجارها الكثيرة الباسقة وبحيراتها المتدفقة وأرضها الرملية في جناحها الصيفي.‏

كما أن اتساع مساحة الجناح الشتوي وعلو السقف وشرفة جو البيت والبلكون المطل على ما كان مسرحاً فيما مضى وإطلالة الجناح الشتوي على الصيفي عبر الواجهة الزجاجية كل شيء ما زال كما هو حتى الآن، لا شيء تغير سوى الزبائن والرواد‏

في إحدى جلساتنا بهذا المقهى الأصيل قال واحد من مجموعة طاولتنا: إنني أجزم أن مدينة حمص تتسم بأقل نسبة من البطالة والعاطلين عن العمل في العالم كله.‏

وسط استغرابنا لهذه المعلومة التي تحتاج إلى مركز دراسات تابع الرجل توضيحه قائلاً: انظروا يا أصدقائي إلى العدد الكبير من الطاولات المكتظة بالزبائن بمن فيهم بعض أعزائنا الطلبة الفارين من مدارسهم بكتبهم المدرسية ولباس الفتوة فالجميع منصرف بكليته إلى العمل لا أحد منهم يشكو البطالة فمنهم من هو منهمك بورق اللعب (الشدة) بمختلف ألعابها وتسمياتها، ومنهم من هو منهمك بطاولة الزهر بكل جدية وإخلاص والبعض منكب على الشطرنج.‏

الجميع منهمك في عمله كما ذكرت، باستثناء طاولتنا وطاولة أخرى مجاورة، فهاتان الطاولتان فقط تضمان العاطلين عن العمل، المتفرغين للثرثرة وطق الحنك والحكي على الحكومة والناس.‏

فضحكنا جميعاً بمرارة واضحة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية